المتشائم والمتفائل: رؤيتان مختلفتان لعالمٍ واحد!
المتشائم والمتفائل: رؤيتان مختلفتان لعالمٍ واحد!
هل الإنسان يرى العالم كما هو على حقيقته، أم كما تنطبع صورته في داخله؟
هل الأحداث تؤثر فينا فتجعل أحدنا متشائمًا، والآخر متفائلًا؟ أم أننا نحن الذين نؤثر في الأحداث فنجعل أحدها شؤمًا، والآخر فألًا حسنًا؟
هل الظلّ سيء أم حسن؟
إذا نظرنا بعين شجرة تحتاج الضوء لتنمو فهو شر محض، وإذا نظرنا كعابر سبيل تلفح الشمس رأسه فالظل ملاذه.
وهذا يمكن أن يغير نظرتنا للأحداث والأشياء وتقييم خيرها وشرها تبعًا لنتيجتها، الضوء ينميني فهو لي خير، وهو للآخر حرارة وعرق وصداع فهو له شر، وبالتالي فإن الأشياء والأحداث في ذاتها ليست خيرًا ولا هي شر.
وهنا، يمكن القول إن المتشائم يفتش عن ضرر الظل كلما رأى الشمس، أما المتفائل فيعبث في الرماد ليبعث منه جذوة نار تهديه في ليله، وتحميه من برده.
ومن ثم يحق لنا التساؤل؛ هل المتشائم والمتفائل هما وجهان لعملة واحدة هي الأحداث؟
لا ريب أن السماء واحدة، لكنّ الذي يرفع رأسه يرى الرحابة والسعة، والذي يحنيها لا يرى إلا التراب.
فأيُّ الطريقتين نسلك، وأيّ الروايتين نحيا: رواية الخوف والانسحاب، أم رواية الأمل والمواجهة؟
هل العالم من حولنا هو من يُبدّل مشاعرنا، أم نحن الذين نصبغ العالم بلون شعورنا؟
في الوقت الذي يرى فيه أحدنا المطر دموعًا حزينةً تهطل من السماء، يراه الآخرون ماءً يُحيي الأرض ويغسل الحزن عنها.
إنها القطرة ذاتها، بيد أن زاوية القلب التي تنظر تغيّر معناها.
وهكذا، فإن الحياة لا تُمنح لنا بملامح محددة، بل تُبنى يومًا بيومٍ بما نحمله في دواخلنا.
نظرتك تصنع عالمك، فلا تلم العتمة إن كنت تُغمض عينيك، ولا تشتكِ الضياع وأنت ترفض السير.
في عام الحزن، حين ماتت زوجته خديجة، وعمّه أبو طالب، واشتد الإيذاء من قريش، خرج النبي محمد ﷺ متفائلًا في أشدّ مواضع اليأس، إلى الطائف يبغي النصرة، فلم ينصروه؛ ومع ذلك، قال دعاءه المشهور: «إن لم يكن بك غضبٌ عليّ، فلا أبالي…»
لم يرَ النبي فيما جرى معه هزيمة، بل فرصة جديدة، ومضى يبني خير أمة.
في غيابة الجب، وعدوان الأقربين، والثمن البخس، والسجن ظلمًا، ومع هذا ظلّ نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام يقول: «إنه من يتقِ ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.»
سُجن الفيلسوف اليوناني سقراط، وحُكم عليه بالإعدام بتهمة إفساد عقول الشباب والتشكيك في آلهة المدينة. وفي لحظاته الأخيرة، كما يروي أفلاطون في حوار «فيدون»، واجه سقراط الموت بهدوء وثبات، معتبرًا أن الموت قد لا يكون شرًّا، بل ربما يكون نعمة أو راحةً للنفس… وبينما كان يشرب كأس السُمّ، تحدّث إلى تلاميذه عن خلود الروح، قائلاً إن الفيلسوف الحقّ لا يخشى الموت، لأنه تحرير للنفس من قيود الجسد.
لم ير الشر فيما حدث، لكنه رآه انتقالاً نحو حقيقةٍ أسمى.
فالواقع ليس ما تفرضه الحياة، بل ما تصنعه رؤيتك للأحداث.
ولكن!
إذا كانت رؤيتنا تصوغ الواقع، فهل يعني ذلك أن كل واقعٍ مؤلمٍ مردودٌ إلى نظرةٍ خاطئة؟
وهل يكفي أن نبتسم للمحنة، لنُحيلها من عذاب إلى نعمة؟
أم أن في الحياة لحظاتٍ، مهما تأمّلنا فيها خيرًا، تبقى موحشةً، جرداء، لا تنبت إلا وجعًا؟
أليس من الظلم أن نُلقي على كاهل الإنسان وحده مسؤولية تحويل الظلام إلى نور؟
فهل من العدل أن نطلب من الجائع أن يرى في جوعه حكمة، ومن المظلوم أن يُعانق ظالمه بدعوى التسامي، ومن المقهور أن يُحسن الظنّ بقيده؟
ثم، ماذا عن الطفل الذي يولد في خيمةٍ على أنقاض الحرب، هل يصنع نظرته قبل أن يُبصر الحياة؟
وماذا عن الضعيف الذي لا يملك تغييرًا، أيُطلب منه فقط أن يغير زاوية قلبه؟
نعم، التفاؤل نور، لكنه ليس عصًا سحرية تمحو آثار الجراح… والتشاؤم ظلمة، لكنه أحيانًا صوتٌ صادقٌ ينبّهنا أن الحياة ليست دائمًا على خطٍ واحد.
فالحكمة ليست في أن نرى كل شيء جميلًا، بل أن نعرف متى نحلم، ومتى نحزن، ومتى نثور.
إنّها معادلة دقيقة بين حمل القلب للضوء، وبين الاعتراف بأن بعض الظلام ليس من صُنع أعيننا، بل مصنوع لنا إما اختبارًا أو تكريمًا.
فالإنسان لم يصنع الشمس، لكنه يختار ألا يغلق النافذة.
وهكذا، فالعالم ليس فقط صورةً في مرآة نفوسنا، بل هو أيضًا طَرقُ الأقدار على أبوابنا، بعضها يفتَح، وبعضها يُكسر، وبعضها يُغلق دون رجعة.
لكن حتى في أقسى اللحظات، لا يزال بين يدينا خيار:
ألا نكون نسخةً من الشرّ، وإن عشنا معه.
ألا نحمل القسوة، وإن ضاقت بنا الأرض.
أن نكون، كما قال يوسف عليه السلام، من المحسنين… ليس لأن حياتنا سهلة، ولكن لأن قلوبنا اختارت ألّا تتشوه.
ورغم كل ما سبق، يبقى النور حقيقةً، وتظل في نفوسنا القدرة على رؤيته، والرؤية به، والسعي من أجله وإليه… ويبقى الظلام حقيقةً أخرى، لا ينفي وجودَه إنكارُه، ولا يتغير بمجرد تغير داخلي في نظرتنا إليه، ولكن قد يتغير إذا اقتحمناه بشعلة ضوءٍ في يدنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top