اسمع هذا التأمل بصوت الكاتب
الخصوصية والعزلة — في زمنٍ قد ذابت فيه الجدران!
كان الإنسان يومًا يملك شيئًا نادرًا اسمه الخصوصية؛ يختار متى يُرى، ومتى يغيب.. يطلّ من نافذته متى شاء، ويُسدل ستاره إذا أراد.
كانت الخصوصية مرآةً للكرامة الإنسانية، وفضاءً للحرية، وركنًا أصيلًا من أركان الاستقلالية.. فالذاتُ المستقلة، كانت تقدر أن تُغلق أبوابها وتفتحها بإرادة حرة.
ولكن؛ كيف أنت حين تُفتح النوافذ رغمًا عنك؟ كيف أنت حين تُقتحمُ وتحرمُ حق الاختفاء؟
كيف أنت حين تغدو العيونُ شاشاتٍ، ترصدك في كل حين؛ والهمساتُ إشعاراتٍ، تطاردك باستمرار؛ والوجوهُ بياناتٍ، تُحلّل كل حركة أو سكون؟
أين يلجأ الإنسان إن أراد أن يغيب؟ وأي مأوىً بقي له؟
لم تعد الخصوصية اختيارًا، بل تهمة ووصمة؛ فإن لم تكن حاضرًا، مرئيًا، متصلًا دائمًا، فأنت موضع شبهة، غريب، أو كأنك غير موجود.
في عالمٍ باتت فيه تفاصيل الحياة بثًا حيًا، صارت الخصوصية جريمةً لا تغتفر.
فهل نعيش فعلاً، أم نُعرَض؟ هل نحن أرواح، أم مجرد محتوى؟ وهل يظل الإنسان إنسانًا إن حُرِم من حقه في الانسحاب؟
قديمًا، كان الرجوع إلى البيت عودةً للسكينة، للصمت، للهدوء الذي يُشبهنا؛ أما الآن، فكل بيت شاشةٌ لا تنام، ترنّ في كل لحظة، ترفض أن تتركنا وحدنا.
لم يكن أحد يعرف عنك إلا ما يراه بعينيه أو يسمعه بأذنيه، أما اليوم فهو يعرف كل شيء من«الستوري» و«المنشور» و«آخر الأخبار»… دون أن يطرق الباب.
أصبحت الأبواب لا تُغلق، وصار الاختلاء بالنفس غايةً لا تدرك، ولم يعُد يحمينا من ضجيج العالم هروب ولا انطواء ولا اختباء!
الخصوصية؟ أصبحت شُبهة! من يُطفئ هاتفه يُستجوب، ومن يتأخر بالرد يُلام، ومن يصمت يُتَّهَم بالتقصير.
لم نعد نعيش ولكن نُبَث… وكلما حاول أحدنا أن يلوذ بذاته فرارًا، علا صوت الهاتف: «لقد تأخرت عن العالم»
كنتُ أظنّ الوحدة قرارًا مستقلاً، فإذا بها أغلال مقيدة برنّات!
قديمًا كنتُ أختبئ خلف كتاب، أو حائط، أو حتى كاسيت… أما الآن، فلا مهرب حتى من نفسي.
كل ما فينا صار مرئيًا؛ ليس بناءً على رغبتنا، ولكن لأنّنا نسينا الإشعارات مفعلة.
الرسائل تتسلل دون استئذان، والعيون تراك عبر صورك أكثر مما يرونك وجهًا لوجه.
كانت الحياة تُمهلنا لنلحق بها، تسير بنا على مهل؛ أما اليوم، فهي تركض، وتهرول، وتُبثّ، ونحن خلفها، بلا نهاية.
الخصوصية؟ لم تكن فقط حقًا؛ بل كانت نعمةً أيضًا، وانقرضت كما انقرض زمن الرسائل بخط اليد.