رواية إخلاء سبيل: الفصل السادس

إخلاء سبيل ٦
رواية إخلاء سبيل الفصل السادس
يتألف مقر ضياء من أربع قاعات، ولكل قاعة مهمة مميزة.القاعة الأولى أسماها «مكتبة الأرواح»، حيث يؤمن ضياء بأن الروح ليست سوى معلومات، وبإمكانه تجميع هذه المعلومات وتكوين أرواح جديدة وإعادة إحيائها، فقد رأى أن أسلافنا عاشوا وماتوا دون أن يتركوا أثرًا غير ذريتهم، لذلك قرر أن يُخلد البشر ولكن بطريقة أخرى.ولأجل ذلك اتجه إلى تهكير كل ما يتصل بالإنترنت، وتحليل كل المعلومات: الحسابات، البيانات، التدوينات، الصور، الفيديوهات، المعاملات الائتمانية، الرسائل الإلكترونية الخاصة. وبذلك استطاع تجميع كل خيط رقمي من حياة البشر ليعيد إحياءهم في صورة توائمهم الرقمية، تتحدث وتتحرك وتتصرف تمامًا كما كانوا يفعلون في حياتهم.كان طموحه أن يُمكّن الناس من محادثة موتاهم، رؤيتهم مجددًا، التفاعل معهم، وكأنهم ما زالوا بينهم؛ الصوت، الحركات، التعبيرات، الذكريات، آراؤهم السياسية، الدينية، الشخصية، الرياضية، حتى لزماتهم الكلامية، نسق أجسامهم، كل شيء يعود كما كان. بلغت المحاكاة درجة من الواقعية لا يمكن معها لأحد أن يفرق بين الحقيقة والوهم.وبهذا الشكل، أصبحت المكتبة جسرًا بين عالم الموتى والأحياء، نافذة يفتحها ضياء، يمر منها أولئك الذين رحلوا إلى الأبد، ويعودون من جديد. وقد أسند ضياء إدارة هذه القاعة إلى زميله من أيام الجامعة؛ الصحفي المعروف إبراهيم طارق، دائم البحث عن الشهرة والتفرّد، والذي ذاع صيته بعد نشره تقريرًا مثيرًا للجدل عن اختفاء المهندس خالد عبد الرازق وعائلته في ظروف غامضة، مما أحدث زلزالاً في الرأي العام.أما القاعة الثانية فهي «قاعة التأمل»، مخصصة لممارسة تمارين التأمل، وهي ليست تمارين رياضية وإنما تعبدية، فقد أقنع أصدقاءه بضرورة التعبد، ولكن دون إله. دعاهم إلى عبادة ذواتهم، وأقنعهم أن النفس أحق بالطاعة، وأجدر بتحقيق رغباتها دون قيد، وحبّ النفس سبيل الخلود. وأسند إدارة تلك القاعة إلى نادين الحكيم، معلمة اليوجا والتأمل، المميزة بنظّارتها الدائرية السوداء الكبيرة، والتي وجدت في فلسفة ضياء التحررية ملاذًا يلبي شغفها بالتمرد على التقاليد.أما القاعة الثالثة فهي «قاعة الأبحاث»، مركز الأبحاث والدراسات والتجارب العلمية، يشرف عليها د. جاد المصري، أستاذ الفيزياء الحيوية، الذي طالما طمح إلى كسر حدود العلم التقليدي، ووجد ضالته أخيرًا في مشروع ضياء، حقل التجارب الذي لا يقيده شيء. هنا حيث لا قيد على الابتكار، ولا مكان للمحرمات؛ بل الحرية المطلقة لكسر أي حاجز يقف في وجه المعرفة. آمن جاد أن ما يحققه هنا لا يُعد تقدمًا علميًا فحسب، بل خطوات نحو عوالم جديدة، لم يجرؤ الإنسان على تصورها من قبل.والقاعة الرابعة هي «قاعة الموسيقى»، تضج بموسيقى صاخبة عشوائية، أقنعهم ضياء أنها تُغذّي روح الابتكار والتحفيز، وحولَها سياج من تماثيل عارية، تبعث إحساسًا بالتمرد والتحرر، «العقول لا تبدع إلا حين تتخلص من كل القيود، حتى لو كان ذلك فوضويًا وغير منطقي.» هكذا يردد ضياء دائمًا، والمشرف على هذه القاعة هو بهاء الصياد، المغني المعروف بلقب «صيصا»، الذي عاش حياته مواظبًا على ارتداء السلاسل والحظاظات، والذي رأى في هذا المشروع فرصة لقنص شهرة لم ينلها بغنائه. ويعاونه أشرف القاضي، بالإضافة إلى عمله كسائق ضياء الخاص.مع مرور الوقت، بدأت هذه القاعة تُخرج المشاركين عن النظام المعتاد إلى الفوضى الخلاّقة، وتدفعهم للتخلي عن التحفظ، وتغرس فيهم رؤية ضياء التحررية، وتقنعهم أكثر بفلسفته القائمة على أن الابتكار الحقيقي يولد من رحم الفوضى. وبالفعل أصبحت هذه الفوضى طقسًا يوميًا.أما ضياء فقد احتفظ لنفسه بـ «قاعة القيادة» في مبنى سري سفلي، لا يدخلها أحد سواه، تعجّ بأجهزة استشعار حرارية، تفحص كل من يحاول الدخول بدقة متناهية، عبر نبضات دماغية مسجلة، تتحقق من التوافق التام بين الشخص الذي يحاول الدخول وبين ذاكرة ضياء ووظائفه الحيوية.ذات مرة، حاول أحدهم التسلل إلى القاعة، فاستشعرت الأجهزة تباينًا طفيفًا في الأنماط الدماغية، فأطلقت إنذارًا صامتًا لضياء بينما توقفت الأبواب الثقيلة كأنها أصيبت بشلل، ثم انطفأت الأنوار معلنة تعطيل النظام وإرسال الدخيل نحو الفناء بأسلحة ليزرية فتكت به.واليوم، كادت أجهزة الاستشعار تخطئ في التعرف إليه، فقد عاد إلى المقر بوجه غير الذي غادر به، وقد لاحظ كل أعضاء المقر توتره لأول مرة، وجهه شاحب على غير العادة، عيناه تدوران في كل اتجاه، تتفحصان المقر بحدة وقلق، يسير بخطى ثقيلة مترددة، تذكّر أولى خطواته البائسة على هذه الجزيرة في أيام العزلة، وأصابعه تداعب حافة سترته، يبحث فيها عن ملاذ آمن لمخاوفه.عند مغادرته، كانوا يتوقعون أن يعود ومعه الهرم الكريستالي، إذ جمعهم وبشّرهم بقرب تحقيق الحلم الكبير، بيد أن عودته جلبت معها شكوكًا وصمتًا غريبًا، ولم يجرؤ أحد على سؤاله عن السبب، فتهافتوا على نادين الحكيم يسألونها، لكنها اكتفت بالصمت، فوقفوا يتبادلون النظرات القلقة، وارتفعت وتيرة الهمسات، وغرقت الجزيرة في ترقب متوتر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top