
رواية إخلاء سبيل
الفصل الرابع
أقلع ضياء من العتل بطائرته الخاصة، متجهًا نحو المقر، جزيرة معزولة في قلب البحر الأبيض المتوسط، تبدو كسفينة معطوبة هلك عنها بحّارتها منذ آلاف السنين، وتركوها تروي مأساتهم في صمتٍ موحش.مياه البحر تموج بعنف، تقفز مثل الخيل الجامح، تهبط كالشلال، ذكّرته تلك الأمواج الهائجة برحلته المأساوية، مع أصدقائه في السنة الثالثة من الكلية، حين استقلوا مركبًا وأبحروا بعيدًا، ثم قفزوا تباعًا إلى الماء يتسابقون بحماس؛ من يسبح أسرع؟ ومن يصمد أطول تحت الماء؟
فَقَدَ ضياء الوعي ولم يَلْحظه أحد، صار جسمه الرخو لعبة سائغة في يد الأمواج، تُقلِّبُه في كل اتجاه، ولم تتركه إلا عالقًا بصخرة، وحين أفاق صرخ مستغيثًا بأصدقائه، لكنّ صهيل الموج ابتلع نداءاته، وخارت قواه فاستسلم لمصيره المجهول.وفجأة، دفعتْه موجة عاتية إلى الأعلى، ثم انحسرت وتركته مستلقيًا على ظهر الصخرة، غائبًا عن الوعي من جديد.لسعته شمس الصباح، ففتح عينيه ببطء، ورفع رأسه بصعوبة، متحاملًا على ذراعيه الخائرين، ثم وقف محنيًا من آلام ظهره، وحين تأقلمت عيناه مع وهج الشمس، لم يصدق نفسه.إنها ليست مجرد صخرة، بل جزيرة ممتدة…!! شعر ببعض الراحة، لكن لم تدم راحته طويلًا، فقد أدرك أن الوضع الجديد يمنحه مهلة أطول للهلاك ليس إلاّ…!!غامت الدنيا أمام عينيه مجددًا، ومضت الثواني ثقيلة، أثقل من حركة قدميه المنهكتين، وهما تغوصان في الرمال الحارقة، والرياح المالحة تصفع وجهه، والعطش المدقع يسري فيه كالسُّم، والجوع القاتل يستنزفه.لم يأت أصدقاؤه لإنقاذه، كما كان يتوقع…!! مضت ثلاثة أيام طويلة، والموت يحوم حوله كظلّه، وهو يكافح للبقاء؛ يأكل أي نبات أو حشرة، يشرب من ماء الأمطار، يحتمي من برد الليل تحت الصخور، واليأس يفتك به مع كل غروب، وأصدقاؤه لا يأتون…!!كاد يستسلم، لولا سفينة تجارية مرّت بالقرب من الجزيرة، لوّح لها بآخر ما تبقى فيه من طاقة، فانتشلته من عزلته القاتلة.ومنذ ذلك اليوم، والجزيرة لم تفارق مخيلته… عقد العـزم على أن يعود.والآن، وهو يهبط بالطائرة في مدرج الطائرات الخاص به، على متن الجزيرة نفسها، يعتريه الحزن والضيق، لا من ذكريات الرحلة الأولى، بل بسبب العدو الذي عاد يظهر من جديد: «حاتم سليم!»ذلك الاسم الذي أشعل غضبه من قبل كثيرًا، أما اليوم فقد أوقد في مخيلته ذكريات كان يفضل أن ينساها.ذكريات المدينة الجامعية حيث تعرف إلى حاتم، الذي كان يدرس بكلية الذكاء الاصطناعي.ذكريات خلافاتهما المتكررة، نقاشاتهما الحادة خلال الترم الأول بالسنة الأولى، علاقتهما المعقدة وتنافرهما، لولا آدم الذي كان صديقًا لكليهما، بل وصديقًا للجميع، إذ لم يكن يُغضب أحدًا أو يعترض على شيء، وكانوا يصفونه بأن: «دماغه في السحاب!»قسم علم النفس بكلية الآداب، كان مجرد قسم التحق به ضياء في البداية بغير هدف، فقط استجابةً لأوامر التنسيق، إلا أن تجربة الجزيرة القاسية، وعزلته القاتلة عليها، دفعته إلى التركيز على النفس البشرية ومخاوفها، فانغمس في دراسة علم النفس بلهفة، كلهفته لشربة ماء تروي عطشه في أيام الجزيرة الثلاث.رأى في هذا المجال المفتاح الأوحد الذي سيعيده إلى تلك الجزيرة، السلاح الذي سيمكّنه من قيادة الآخرين وسبر أغوار العلماء في شتى المجالات، إذ يراهم من حيث لا يرونه، ينفذ إلى دواخلهم كما ينفذ الخنجر إلى اللحم الطري، يقرأ نفوسهم كصفحات مفتوحة: رغباتهم، غرائزهم، أمانيهم، مخاوفهم. أمّا هم فلن يروا منه سوى قشرته الخارجية، غافلين عما يحيكه في الخفاء، وهو يقترب خطوة بعد خطوة من حلمه الكبير.شهدت السنة الأخيرة من الكلية محاولات متكررة من ضياء لبسط سيطرته على زملائه، بأساليب نفسية مستوحاة من دراسته، يراقبهم عن كثب، يدرس شخصياتهم بعناية، يفتعل بعض المواقف لاختبار ردود أفعالهم.يهيئ لهم جو التجربة، ثم ينزوي في ركن كافتيريا الكلية، يدون ملاحظاته على تفاعلهم: هذا يهدأ حين يُهان، والآخر يرضيه المدح، والثالث طماع يرى المال كل شيء، وذلك مغرور لا يرى إلا نفسه، وذاك طيب حد السذاجة… تعامل معهم كعرائس في مسرح أبحاثه، دُمىً صامتة يحركها كيف يشاء، وهو الكل في الكل، المؤلف والمخرج والمشاهد في آن واحد، يتلذذ في صمت.ذات يوم، أراد ضياء اختبار مدى قدرته على التحكم بنفوس الآخرين، نفث في نفس أحد زملائه أن عامل الكافتيريا يسبّه في غيابه. كذبة بثّها بنبرة واثقة، صدّقها زميله دون تردد، واندفع في اشتباك عنيف، انتهى بالعامل في مشرحة المستشفى، وبصديقه على خشبة الإعدام.لم يرف لضياء جفن، ولم تهتز منه شعرة، هذه ضريبة النجاح، والأفضل أن يدفعها الآخرون عوضًا عنه.كان ذلك الحادث شرارة القطيعة، التي أوقدت النار في قلب حاتم من يومها، ودفعته لقطع علاقته بضياء نهائيًا، إذ أدرك حينها أنه يتعامل مع شخص بلا قلب، كائن مقزز يعبث بأرواح الآخرين كأحجار على رقعة الشطرنج… جرح لا يندمل، ونفور لا يتلاشى، وقرار لا رجعة فيه.مضت الأيام، وبدأ حلم ضياء يتبلور، حلم العودة إلى الجزيرة، ولكنها عودة المنتصر هذه المرة، عودة المالك المسيطر.أعدّ كل شيء بدقة؛ بدأ بتوفير الغطاء القانوني ليتمكن من التحرك بحرية، وضع خطة محكمة لتقنين نشاطاته، تقدم بطلب إلى السلطات المختصة لإنشاء مركز أبحاث علمي متخصص في التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، مقدّمًا دراساتٍ ووثائق مفصلة تبرز أهمية المشروع في دفع عجلة التقدم العلمي، وحصل على التراخيص اللازمة، وتمكن من تسجيل الجزيرة كموقع رسمي لمركز الأبحاث.وعلى الفور، تعاقد مع شركة إنشاءات، لتشييد المقر على هذه الجزيرة المعزولة؛ قلعة جدرانها كالتاج، تتوسطها مسلة تعلوها فجوة صغيرة على هيئة هرم. ولم يدفع لهم شيئًا في المقابل سوى وعدٍ بجزء من أرباح المشروع العملاق؛ بينما في قرارة نفسه كان يخطط للتخلص منهم في أقرب سلة مهملات.انتقى أفراد فريقه بعناية فائقة، ليضمن أعلى درجات السرية. اختارهم بدقة ليشهدوا معه لحظة الميلاد العظيم، وليضمن ولاءهم المطلق له، إلى حين التخلص منهم أيضًا، واستبدالهم بروبوتات.بدأ ينفث وعوده كالسحر في عقولهم: «أنت ستجني من هذا المشروع ثروة تفوق أحلامك، وأنت ستنعم بالسكينة والراحة إلى الأبد، وأنت سيشار إليك كأعظم عالم في التاريخ الحديث، وستتوج بكل الجوائز، أما أنت فسوف يكون انضمامك لنا شرفًا في حد ذاته، تكرّم علينا وانضم إلينا، وهذا يكفينا.»صوته الواثق يطمئنهم، ونظراته النافذة الملغومة بلمعة إغراء تجذبهم بلا أدنى مقاومة، ينسج بكلماته البراقة خيوطًا رقيقة من الأحلام تلتف حول رقابهم، تطوقهم وتقودهم إليه كالأسرى، ساروا خلفه مأخوذين بأحلام الخلود والثروة والملك المقيم.سيصنع للبشر الخلود، سيجعل الإنسان قادرًا على أن يحيا إلى الأبد؛ لا يمرض، ولا يشيخ، ولا يموت؛ ولكل شيء ثمنه.من أراد أن يعيش بلا مرض، عليه أن يدفع. من أراد ألا يشيخ، سيدفع أكثر. ومن أراد ألا يموت أبدًا، سيدفع أضعافًا.وهكذا يتساقط الفقراء جثثًا منسية، والطبقة المتوسطة أجيالًا تحترق ببطء، بينما يعيش الأثرياء بلا خوفٍ ولا نهاية، متربعين على عروش الخلود.جيل يمضي، ويليه آخر، ثم يفنى الفقراء والطبقة المتوسطة، ويخلفون وراءهم أبناءهم خدامًا في قصور الأغنياء، وضياء في القمة، أغناهم جميعًا، ينظر من عليائه إلى العالم كإمبراطورية تليق بطموحه اللامحدود، حيث تتحدد قيمة الحياة وفق الثروة وحدها.أشرف بنفسه على تصميم المقر، مجسّدًا فيه أفكاره، ومتخذًا منه رمزًا لعظمته. اعتاد على انبهار كل من ينضم إليه بهذا التصميم؛ كل عضو جديد يسأل عن تلك الفجوة الهرمية الصغيرة في المسلة، فيجيبه ضياء وعيناه تلمعان بنظرة مكتظة بالثقة والغموض: «نحن نعمل من أجل الإنسان، ذلك الكائن الذي لم يعرف مصلحته يومًا ورفض سر الخلود، سأمنحه هذا السر. فور وصولي إلى الهرم الكريستالي، سأسدّ به هذه الفجوة الهرمية، وأحقق الحلم الذي لم يجرؤ أحد قبلي على مجرد تخيله.»كانت تلك الجملة كالتعويذة، يكررها في كل خطاب، حتى تسرّبت إلى نفوسهم، وبلغت فيهم حد الهوس، وصار الخلود بالنسبة لهم مطلبًا، وليس لأحدٍ الحق في رفضه مرة أخرى.