رواية إخلاء سبيل: الفصل الثالث

إخلاء سبيل ٣
رواية إخلاء سبيل الفصل الثالث
بمجرد دخولهم الغرفةَ تبخـّر الأملُ في إيجاد أي رسالة أو تفسير، الغرفة من الداخل خاوية مظلمة، والشمس لا تدخلها إلا بصيصًا عند الغروب.جثا حاتم على ركبتيه بخيبة أمل فوق كومة من السبخ، وجلست هالة إلى جواره تواسيه بصمت، بينما ظلّ آدم واقفًا يثرثر بلا توقف: «لو أن أي شخص سواك طلب مني أن أدخل هذه الغرفة لما فعلت. هل أنا مجنون؟ إنها غرفة تحوم حولها حكايات مخيفة، ولكنني لا أخاف… هل تبحث فيها عن جثة؟ ماذا قال لك ذلك الشيخ؟ لماذا تصدقه؟ أعتقد أنه يخدعك. يجب علينا مغادرة هذه الغرفة. لن تجد شيئًا هنا. أنا واثق. لست أول واحد لا يجد…»رفع حاتم رأسه مصدومًا، وصوّب نظرةً حادةً نحو آدم. ارتبك آدم ونظر بعيدًا، وقد أدرك ما تعنيه تلك النظرة، فقال بتردد: «ضياء… أتى إلى هنا قبلك ولم يجد شيئًا.»حدّق حاتم باندهاش: «ضياء؟! ولماذا لم تخبرنِ بذلك من قبل؟»أجابه آدم وقد زاد تردده: «أردتك أن تأتي وأراك.»نهض حاتم وسأله بحدة: «وماذا كان يفعل ضياء هنا؟»رد آدم بامتعاض: «لا أعرف. قلت لك لم أدخل معه؛ كل ما أعرفه أنه خرج ولم يجد ما كان يبحث عنه.»تبادل حاتم نظرات حائرة مع هالة، ثم صوّب نظرة متفحصة نحو آدم، الذي رنّ هاتفه فجأة، فنظر إلى الشاشة بتبرم، وقال بغيظ: «ليتنا تذكرنا شيئًا مهمًا… ها هو ضياء يرن عليّ… لن أرد… آلو! أهلًا أهلًا…»أشار إليه حاتم بإيماءة سريعة؛ ألا يخبره بوجوده، فخرج آدم يكمل مكالمته، بينما تساءلت هالة في حيرة: «ما الذي كان يبحث عنه ضياء هنا؟»تفحص حاتم الغرفة بعينيه وقال: «لا أعرف؛ ولكن مجيئه هنا يعني أن حُلمي لم يكن عبثًا.»أومأت برأسها وأضافت بتفكير عميق: «ويعني أيضًا أن مجيئه هنا لم يكن عبثًا.»تفكرت بتدبر، ثم سألته بقلق: «هل تثق في آدم؟»التقط آدم السؤال وهو يهم بالدخول إلى الغرفة، فقال ضاحكًا: «أنا نَفسي لا أثق بنفسي!»ضحكوا فأردف آدم: «ضياء يريد أن يلتقي بك. أخبرته أنك تبحث في الغرفة عن معنى حلم شيخ غريب، فقال إنه سيأتي على الفور، و…»قاطعه حاتم بغضب مكتوم: «كيف تفهم؟ ألم أقل لك لا تخبره بوجودي؟!»رفع آدم يديه مبررًا: «إنه سيساعدك، لقد أقسم لي على ذلك، على كل حال إنه لن يتأخر كثيرًا، كلها أربع ساعات ويكون هنا.»استدرك بصوت خافت كأنه يحدث نفسه: «وإن كنت لا أعرف كيف سيساعدك ضياء، فهو لا يحب الخير لأحد؛ لو وجد نملة تحمل قطعة خبز، لأخذها منها ووضع مكانها قطعة خشب.»ردّ حاتم بغيظ: «قل لنفسك!»، ثم ألقى نظرة غاضبة نحو آدم، وكأنه يقول: «عادتك أم ستشتريها؟»ابتسم آدم محاولًا تهدئة حاتم، وقال بود: «يجب أن تتقبل وجوده.»دفع حاتم مفاتيح سيارته تجاه آدم، قائلًا بابتسامة غيظٍ مكظومٍ: «سننتظرك هنا حتى تأتي لنا بالغداء.»ابتسم آدم وردّ مازحًا: «يوم الهناء! ولكنني…»قاطعه حاتم بنفاد صبر: «أعرف، ضعيف في القيادة. لا يهمك، تعامَل، خذ وقتك.»انطلق آدم بالسيارة بسرعة مفاجئة، خلّفت غبارًا كثيفًا ملأ الغرفة، فجعل حاتم وهالة يفرقان الغبار عن وجهيهما بأيديهما وهما يسعلان، وبعد أن هدأ الغبار قال حاتم بحزم: «لا بد أن نصل لأي شيء قبل أن يعود، و… وقبل أن يأتي ضياء.»سألته باستغراب: «هل تفهم شيئًا؟» «ولا أريد… فقط لنبحث.»شرعا يجوبان الغرفة، ينقبان في كل أركانها بفضولٍ مشوب بقلق. فجأة، ارتطمت يد هالة بشيء غريب فنادت حاتم، فاقترب على الفور وأمسك هذا الشيء بيدين متفحصتين، وعينين مليئتين بالدهشة.صولجان عتيق مدفون تحت التراب!!أخرجه وتأمله طويلًا، ثم نظر إلى هالة في دهشة قائلًا: «لقد تأكدت ظنوني… الشيخ الغريب في الحُلم يرمز لهذه الغرفة القديمة المنعزلة، وها هو جسر العتل أمامنا مباشرةً، يشبه الجسر الذي كان يسير عليه ذلك الشيخ في الحلم، وها هو الصولجان برأس كلب وذيل شوكة. أعتقد أن السر هنا. والحل هنا. ولا بد من الوصول إليه قبل أن يأتي ضياء. لنبدأ بالحفر في هذا الموضع.»أشار إلى المكان الذي عثرا فيه على الصولجان، واندفع نحو الأرض يزيح التراب بحذر شديد، يخشى أن تنجرح يداه بشيء خفي، أو أن يكسر شيئًا هشًّا تحت التراب وليس يراه. بعد لحظات، اصطدمت يداه بجسم صلب، التفت إلى هالة قائلًا بصوتٍ خفيض: «ناوليني الصولجان.»قبض عليه بقوة، شعر بوخز خفيف يتسلل من الصولجان لأطراف أصابعه ويسري في عروقه. نظر بدهشة إلى الصولجان، متعجبًا من تأثيره الغريب.بدأ يضرب بالصولجان ضربات خفيفة على الجسم الصلب، مستكشًفا حدوده بحذر، وسرعان ما أدرك أنه جسم حديدي على شكل دائرة، وأنه وهالة يقفان في مركزها.وعلى غير المتوقع، تناهى إلى سمعهما صوت آدم من الخارج، يتحدث مع شخصٍ ما بصوت خافت… أرهف حاتم السمع ليدرك أن الصوت الآخر ليس غريبًا… صوت غريمه القديم اللدود.«ضياء!» أحس بانقباضٍ يتسلل إلى صدره، ذكريات مؤلمة قديمة تنبعث من تحت الركام، كأنه لم يزح التراب للتوّ إلا عن تلك الذكريات المقيتة.لم يكن مجرد خلافٍ عابر بينهما، بل خصومة ظلّ رمادها كامنًا في ذاكرته حتى اتّقد اليوم.حاول أن يسترق السمع بحذر أكبر، صوت ضياء الواثق يمضي مثل الخنجر ينهر آدم كما لو أذنب.لم يتمكن حاتم من تمييز كلامهما، كلمات متناثرة، حوار غامض، تملكت الريبة قلبه، فقال لنفسه: «ولكن آدم، كيف يخون؟ لا، لا يمكن… آدم… أرعن، أهوج، خواف، لكن لا يخون.»استوقفته كلمة «خواف». «هل يدفعه الخوف لبيعي لضياء؟!»شعر بأن عليه التحرك حالًا، نهض على الفور، ووقف منحنيًا مستندًا إلى الصولجان، متحيرًا يفكر. «ماذا أفعل الآن؟»استغرقه التفكير ثوانٍ، والصوت يدنو منهما، وهالة تسأل في ضيق: «كيف وصل بهذه السرعة الغريبة؟ ألم يقل آدم إن ضياء سيستغرق أربع ساعات؟»تبسم حاتم بضيق أكبر، وهو يكرر بسخرية مريرة: «ألم يقل آدم؟! آآآدم!!»وقف ساخطًا، فاقدًا كل حيلة، وكلما دنا وقع أقدام آدم وضياء، ازداد ضيقًا واختنق غيظًا، ومن فرط غيظه رفع الصولجان وضربه في الأرض بقوة، يفرغ غضبًا مكبوتًا لا يمكن كتمانه.ولم يكن يدرك أن ضربة من الصولجان يمكنها أن تحدث كل هذا التغيير المفاجئ.انفلق الجسم الدائري من منتصفه وابتلعهما، وبالسرعة نفسها عاد فانغلق كحالته الأولى، وارتدّ كل شيء كما كان، بالتزامن مع دخول آدم وضياء؛ اللذين وجدا الغرفة كما تركها آدم منذ نصف ساعة؛ إلا من اختلاف وحيد… حاتم وهالة ليسا فيها.«أين هما؟!» تساءل ضياء بنبرة غاضبة مرتابة، فتسمّر آدم في مكانه، وقد ارتسم التوتر على وجهه كالغيمة وهو يتلفّت حوله في حيرة، خرج ضياء من الغرفة غاضبًا، ثم التفت كالعاصفة إلى أحد مرافقيه قائلاً بحدة: «لقد هربا.»ردّ مرافقه بتوتر: «وماذا سنفعل الآن؟»كـزّ ضياء بأنيابه على شفته السفلية وانتفخت فتحتا أنفه، ثم ابتسم ابتسامة خبيثة، قائلاً بثقة: «لن يستطيعا الإفلات.»استدار نحو آدم الذي مازال واقفًا في الغرفة، منكمشًا على نفسه، وقال بصوت رعدي: «أما أنت، فحسابك عسير.»شحب وجه آدم وتقلص جسده من الذعر، ثم تنفس بارتياح خافت في اللحظة التي أقلع فيها ضياء ومرافقوه مغادرين.توسّطت الشمس العتل، وآدم يدير محرك السيارة مغادرًا بها، بعد أن أعياه البحث عن حاتم وهالة، حتى بدأ يشك في أنه رآهما اليوم حقًا؛ لولا أنه يضغط بقدميه على دواسة بنزين سيارتهما.حدّث نفسه بنبرة لائمة: «لقد أهدروا وجبة الغداء الدسمة!»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top