رواية إخلاء سبيل الفصل العشرون

إخلاء سبيل – الفصل ٢٠
الفصل العشرون

فور خروج إبراهيم من الغرفة المهجورة، ارتطم ضوء كشافات الموجودين برأسه، فصرخوا جميعًا؛ رغم علمهم بأن هناك بشرًا داخل الغرفة، إلا أن سمعتها السيئة استحوذت على عقولهم، وأبعدت أي منطق أو تفكير عقلاني عن أذهانهم. ارتبك إبراهيم من صرخاتهم، سأله ضياء من الداخل عمّا يجري، لكن إبراهيم لم يجبه.

وخرج إليهم هاتفًا بغضب: «ماذا تفعلون هنا؟ اخفضوا أصواتكم. تظنون أنفسكم في سوق؟ أنتم تزعجوننا وتعطلون عملنا. هذا مكان بحث أثري، وليس للعب. اذهبوا من هنا، وإلا سأطلب لكم الشرطة.»

تقدم آدم خطوة للأمام، وسأل مذهولًا: «تطلب الشرطة! إبراهيم؟ ماذا تفعل هنا؟!»

تلعثم إبراهيم للحظة، ألجمت فيها الصدمة لسانه، وكاد يفقد ثباته، لولا أنْ تداركْ الأمر، فقفز خارج الغرفة بسرعة، راميًا جسده نحو آدم، فاتحًا ذراعيه، محتضنًا إياه، قائلًا بحماس: «آدم! عاش من رآك. أوحشتني يا رجل.»

راح إبراهيم ينسج قصصًا من خياله، ثم أنهى حديثه بقوله: «أنا هنا الآن في تغطية صحفية لحدث كبير تشرف عليه وزارة الآثار.»

ظلّ آدم واقفًا دون أن يرد أو يحرك ذراعيه، وعيناه مليئتان بالشك. وبعد لحظات من التردد، تملّص من ذراعي إبراهيم، متراجعًا خطوة إلى الوراء، قائلاً في حدة: «كفى. إبراهيم، لقد صدعت رأسي بهذه الحكايات. قل لي، ألم تشاهد حاتم؟»

ازداد إبراهيم ارتباكًا، فحاول التماسك، وقال بنبرة مصطنعة: «حاتم؟! لا، ما الذي سيأتي به إلى هنا؟!»

أجابه آدم بأسى: «لقد كان هنا في الصباح، في هذه الغرفة… واختفى!»

افتعل حاجبا إبراهيم وعيناه الصدمة، ثم قال بنبرة تعمد أن تبدو هادئة ومتوترة: «لا يوجد شيء في هذه الغرفة، فقط فريق البحث.»

ظلّ آدم واقفًا، مشوشًا، تتصارع الأفكار في عقله؛ هل يغادر مع أصحابه وحالة؟ أم يواصل البحث؟ لكن لم يعد هناك موضع قدم في المنطقة لم يبحثوا فيه، فأين حاتم؟

تعاركت الأفكار في رأسه، وتضاربت المشاعر في نفسه، لم يبقَ أمامه خيار، فقال لإبراهيم بهدوء: «إذا عثرت على حاتم؛ اتصل بي فورًا.»

طمأنه إبراهيم قائلاً: «بالتأكيد، سأبلغك على الفور.»، فتبادلا أرقام الهواتف، وانصرف آدم متثاقلًا، وأصحابه وحالة وراءه.

لمحوا أنوار سيارات قادمة من جهة المقابر، فاتجهوا صوبها، ليتبينوا أن أهل البلدة قد جاءوا لدفن ميت.

انخرط آدم ورفاقه معهم في مراسم الدفن، مشاركين أهل البلدة في عزائهم، حتى فرغوا من إهالة آخر حفنة تراب على الميت. عندها، صاح واحد من أهل المتوفى بصوتٍ عالٍ مرتجف: «شكر الله سعيكم جميعًا.»

وهي العبارة المعتادة التي تشير إلى انتهاء الدفن، والإذن لهم بالانصراف. وانصرف الجميع، ومازالت الأسئلة ماكثة كما هي في عقل آدم، تبحث عن إجابة.

ركب آدم خلف حالة على الموتوسيكل، وانطلقا باتجاه الغرب، نحو البلد… وفي منتصف الطريق، بجانب إحدى الغرف المبنية على حافة مزرعة سمكية، طلب آدم من حالة التوقف فجأة.

اندهش حالة، لكنه انصاع لطلبه على مضض، أخرج آدم هاتفه المحمول واتصل بالنجدة، محاولًا تقديم بلاغ عما حدث.

ما إن أدرك حالة ما يفعله آدم، حتى دفعه بغضبٍ بذراعه اليسرى، مطيحًا به من على الموتوسيكل، فسقط آدم أرضًا، وطار المحمول من يده ليستقر في قاع المزرعة السمكية.

انطلق حالة بالموتوسيكل بسرعة، صارخًا بغضب: «أنا وهؤلاء لا نجتمع في مكان واحد أيها الأحمق.»

جلس آدم عاجزًا، لا هاتف، ولا وسيلة للاتصال، ولا وسيلة مواصلات. افترش الأرض، ودلّى قدميه في المزرعة يحرك بهما الماء لاهيًا بلامبالاة.

تلك عادته دائمًا، يبذل كل محاولة ممكنة للوصول إلى هدفه، وإن لم يفلح، فلا ضرر، ينام قرير العين، مرتاح الضمير. وحتى فقدان صديقه لم يرغمه على تغيير عاداته.

فكر آدم في الأمر بإحباط، وقال لنفسه يُسرّي عنها: «ربما هرب حاتم، ربما يتناول عشاءه الآن في بيته، أو يغط في نوم عميق على سريره.»

بعد دقائق، رآه الشيخ عبد الواحد، وهو عائد من مراسم الدفن، فتوقف بدراجته، وأركبه خلفه متجهًا نحو البلدة.

عاد آدم إلى بيته، استقبلته أمه متسائلة بقلق: «أين كنت؟ لماذا تأخرت؟»

أجابها باقتضاب، وهو ينظر للسبخ في قدميه: «كنت ألعب.»

Scroll to Top