رواية إخلاء سبيل: الفصل الثاني

إخلاء سبيل ٢
رواية إخلاء سبيل الفصل الثاني
قطعا مئةً وخمسين كيلو مترًا، انتهت بهما إلى طريقٍ متلوٍ كالثعبان، لا يزيد عرضه على ثلاثة أمتار، عليه بقايا متآكلة من رصف قديم، على جانبه الشرقي ترعة تُروى منها الأراضي الزراعية، وعلى الجانب الغربي أراضٍ تفصلها عن الطريق صفوف من أشجار الصفصاف والجزورين والكافور.الهواء مشبعٌ برائحة الحقول الرطبة وطين الأرض، وأوراق الأشجار تهفو تحت تأثير الرياح الخفيفة، الطريق غير ممهد، حفر فجائية، ومطبات هوائية، والسيارة صاعدة هابطة كأنها رسم قلب.قبض حاتم على المقود بقوة، آلمته يداه، فقال في ضجر: «يبدو أنني سأضطر إلى تغيير عفشة السيارة بعد أن نعود، وربما تغيير السيارة نفسها.»تشبثت هالة بباب السيارة لتحفظ توازنها، وهي تبتسم وتقول بنبرة لومٍ مفتعلة: «لو أنك قبلت المبالغ الطائلة التي عُرضت عليك لامتلكت أسطول سيارات.»تنهّد حاتم قائلًا: «المال لا يمنع الحزن ولا يجلب السعادة، لا يمنع المرض ولا يمنح الصحة، لا يمنع الموت ولا يهب الحياة؛ فلماذا أهتم به؟»رفعت حاجبيها وقالت بعنادٍ مفتعل: «ولكن من حقك أن تستفيد ماديًا من مشاريعك البرمجية…»قاطعها بهدوء محاولًا إنهاء الحديث عند هذا الحد: «معكِ حق.»ابتسمت بقنوط وهي تهتف ببعض الدلال العنيف محاولةً أن تظهر غاضبة: «هذا أنت ولن تتغير؛ ألا تفكر في المستقبل أبدًا؟!» «بالعكس أفكر فيه دائمًا.»تيّقَنَتْ أنه لن يعطيها إجابةً مريحة، فغيّرت مسار الحوار متسائلةً بتعجب: «ولماذا اخترت ذلك المكان بالتحديد؟ [العَـتَـبْ] أليس هذا اسمه؟»ضحك من كل قلبه، وقال ممازحًا: «العَتَب على النظر يا هالة… اسمه العَتَلْ.»ضحكت هي الأخرى غير مكترثة بهذا الخطأ، فقد تعودت على أن علاقتهما أكبر من كل الأخطاء، فيما توقف حاتم عن الضحك، وقال بنبرةٍ متأملة: «اخترتُ العَتَل لأنـّي أسير خلف حُلمي، أعتقد أنــه المكان الذي رأيت فيه الشيخ الغريب، وأرجو أن أجد هناك حل ذلك اللغز الغامض.»تفكر مليًا وأضاف: «عندما حكيت الحلم لصديقي آدم، أقسم لي أنني أصف العتل بحذافيره.»قاطعتهما رنّةُ هاتفه. «آدم، أعتقد أنني اقتربت من الموقع الذي أرسلته لي.»عاد حاتم للصمت، غارقًا في تفكيره، تفاصيل الحلم تطارده: الأرقام الغريبة، التاج الذهبي، الشعلة الأرجوانية، الشيخ الغامض. تساءل في نفسه: «ماذا ينتظرنا هناك؟»ورغم كل المخاوف التي راودته، قرر المضي قدمًا في هذه المغامرة، عاقدًا العزم على حل اللغز، متمنيًا أن يصل للحل بدون خسائر أو بأقل خسائر.كعادتها لم تعارضه هالة؛ وإن كانت تشعر بالخوف كلما تذكرت تفاصيل الحلم، إلا أن حبها لحاتم يطمس كل خوف، ويزرع في قلبها مساندته مهما كان الثمن.انغمست هالة في مراقبة الطريق، والمقارنة بينه وبين صخب المدينة وزحامها، فأحسّت بالارتياح للهدوء الذي يحيط بهما، إلا أنها شعرت بالأسى عندما رأت سيارات نقل تـقـلّ الركاب، لا سقف لها ولا مقاعد، لا راحة ولا أمان.فكّرت في الركاب الذين يجلسون على حواف صندوق السيارة في العراء، تحت وطأة الأمطار والتراب، وبعضهم يقف في المنتصف يميل مع السيارة حيث تميل.اجتازا العديد من القرى، وفي بداية كل قرية كوبري يمر فوق الترعة، يصل الطريق بالبر الثاني من القرية، وبعد فترة رأت هالة على جانب الطريق الأيسر لافتة «محطة مياه الشرب» فالتفتت إلى حاتم وقالت: «يبدو أننا قد وصلنا.»لم تمضِ لحظات حتّـى وجدا آدم ينتظرهما فوق «كوبري المحيط»؛ وعندما رآهما يقتربان ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة مليئة بالحنين، غيبة طويلة، لكنها لم تمحُ ذكريات الجامعة التي استعاداها بكل تفاصيلها في لحظة عناق.أمسك آدم بيدَيْ حاتم في رفق محاولاً إقناعه بنبرة مرحة: «ما رأيك لو تؤجل مشواركما للغد؟ خذ بالك، طعام الحاجّة يسبب الإدمان!»ضحك حاتم وردّ بابتسامة: «أعدك، سنفعل، ولكن بعد أن نعود.»تمنّت هالة أنْ لو استجاب لطلب آدم، ليس لأنها غير متحمسة لحل اللغز، بل لرغبتها في تذوق طعام الحاجّة، واستلهام بعض الوصفات الجديدة.اطمأن آدم للوعد الذي اقتنصه من حاتم فتوجه للمقعد الخلفي، وأصرّ على الركوب فيه حتى لا تضطر هالة لتغيير مكانها.تهادت بهم السيارة في طرقات البلدة، يرفعها مطبٌ وتهوي بها حفرة، يتناثر الماء رماديًا داكنًا من حولها وهي تخوض في بركة ماءٍ آسن؛ ومع ذلك لم يتوقف آدم عن سرد الذكريات، وحاتم يتابع حكاياته بشغف، ويردد النظر بين الطريق ومرآة السيارة الداخلية، مسترقًا نظراتٍ إلى وجه آدم وهو يحكي؛ بينما ظلت هالة منشغلةً بمراقبة البيوت المتراصة في تقارب، مندهشةً لتطابق مظهرها الريفي البسيط، وتماثل ارتفاعات طوابقها الثلاث أو الأعلى بقليل. رأت كل بيت يقف إلى جوار الآخر كما لو كان يؤازره، وتعجبت لأبواب هذه البيوت المفتوحة دومًا، كأنّ من بداخلها لا يعبؤون بانكشاف همومهم وأحلامهم، أو ربما ليس لديهم ما يخفونه، وكأنهم جميعًا تحت سقف بيتٍ واحد.مرّوا على قرى أخرى، وعيون هالة تتفحص المارة، البعض يحلُّـون رتعة بهائمهم، ويسوقونها باتجاه الغيطان، وهي تصدر أصوات خوار ومأمأة تختلط بصياح أصحابها: «امشي.. عا».وبعض الطلاب يتجمعون لاستقلال سيارة أجرة، ينتظرون النفر الأخير حتّـى تكتمل حمولة السيارة، وتـعـبُ السهر يظهر على وجوههم، وهم يتصفحون هواتفهم المحمولة بصمت.وعلى جانب الطريق شخص يدير محرك سيارته، ويجلس فيها واضعًا يده على خده، ولا يتحرك بها لبعض الوقت، وكأنه يترك السيارة تهيئ نفسها للسير على هذا الطريق، حتى لا تصيبها صدمة نفسية توقفها عن العمل.وفي وسط الطريق رجال يسيرون بجلابيب رمادية، كل واحد منهم يحمل في يده كيسًا من الخبز، فتساءلت في نفسها: «لماذا يتهافت أهل الريف على شراء الخبز من الأفران، بعدما كانوا يزرعونه ويحصدونه بأيديهم؟»شعرت بحزنٍ عميق وهي تراقب هذا التغيير، وكأن شيئًا من الماضي الجميل قد اندثر؛ إلا أن حزنها سرعان ما تلاشى، إذ شاهدت بعض النساء يحملن صواني الطعام الدائرية فوق رؤوسهن، ويمشين بكل اتزان دون أن يمسكنها بأيديهن، ذاهبات بها إلى الغيطان حيث ينتظرهن الأنفار ليتناولوا «التشريبة» على حدّ قول آدم. ارتسمت على وجه هالة ابتسامة صغيرة، خالطها شعور بأن بعض الأشياء الجميلة لا تزال كما كانت، صامدة في وجه الزمن.دخلوا طريقًا ترابيًا خاليًا من أي أثرٍ لرصيفٍ سابق، اقتحمت رائحة السمك الحي السيارة، واستوطنت أنوفهم. وعلى امتداد الطريق من جهة الشمال بدت المزارع السمكية مقسمةً إلى أحواض مربعة، محاطة بلَحْف من كل جانب.ابتهجت هالة بالأسماك التي تتقافز على وجه الماء في مرح، كأنها تلهو، محدثة أصواتًا متناغمة كأصداء أمواج صغيرة. لاحت من بعيد هضبة صغيرة، حين وصلوا إليها وجدوا فوقها مجموعة من المقابر المتراصة، لا يتجاوز ارتفاعها نصف متر، يحتضن بعضها بعضًا، كأن ساكنيها عائلة واحدة، لمعت عينا هالة بالدموع، لاحظ حاتم تأثرها، فاختطف نظرةً إلى المقابر عن يمينه، وراوده شعور بالتبجيل للمكان أثار في نفسه أمنية، فقال بصوت خاشع: «لو زُيّنت هذه المقابر ومُهّد الطريق إليها.»وأضاف بصوت متهدج: «أشعر أن هذا المكان به عظماء لم يشتهروا بين الناس.»، ألقى عليهم السلام بوداعة وخوف، ثم انتبه على تثاقل المقود في يده، ليجد السيارة تغوص في ترابٍ كثيف يبطئ سرعتها، والغبار يرجمها من كل جانب، محوّلًا لونها الفضي إلى رمادي قاتم.بعد دقيقتين، دخلوا أرضًا سَـبِـخَة، ذات نزٍ وملح، تساءلت هالة في دهشة: «هذا هو الـعَـتَـل؟!»أرض فسيحة، محاطة من كل جانب بجسر ترابي ارتفاعه أربعة أمتار، من خلفه مصرف مياه صغير، ثم عدة مزارع سمكية، ومن بعدها تلوح بحيرة البرلس في الأفق.قاد حاتم سيارته عبر العتل من الغرب إلى الشرق، يتلفت يمينًا ويسارًا، وكأن عينيه تبحثان بلهفة عن ذلك الشيخ الغريب الذي يطارده في أحلامه.لثمت الشمس عينيه برفق وهو يسير فوق جزء من العتل مخطط بالأقدام، ومدقوق فيه خشبتان، كأنهما المرمى. قال آدم متحمسًا: «هذا هو المكان الذي نلعب فيه كرة القدم.»مـرّ حاتم بدائرة المنتصف، غير مبالٍ بعجلات سيارته وهي تمحو خط منتصف الملعب، مما دفع آدم للمزاح قائلًا: «لحسن الحظ أنهم لا يلعبون الآن، وإلا لأوسعوك شتائم!»ظهر أمامهم بناءٌ صغير بالقرب من حافة الجسر الشرقي؛ غرفة بلا باب، جدرانها المهترئة قد استحالت رمادية باهتة بفعل الزمن، فوقفت منكسرة عارية، لا تسترها سوى بقايا قشرة متآكلة، وحيدة كعجوز منسي.المكان مقفر، ونظرات هالة المشتتة كافية لكشف توترها، وهي تراقب حاتم بحذر، وكلّما هبّت رياح خفيفة تذكّرت الحُلم، فازداد قلقها.تساءل آدم: «كم من الوقت ستستغرق؟»أجابه حاتم بلامبالاة: «لا شيء.»ضحك آدم، كأنه سمع نكتة، ورفع حاجبًا وخفض آخر، فقال حاتم بنبرة تتحدى سخريته: «لا شيء حرفيًا؛ لقد انتهيت.»تملّكت الحيرة هالة، واستبد الفضول بآدم، فتساءل مستغربًا: «هل هذا كل شيء؟»هـزّ حاتم رأسه مؤكدًا، فمطّ آدم شفتيه وقال بتردد: «إذن، هيا بنا لنتناول الغداء الذي أعدته لنا الحاجّة.»ابتسم حاتم، ثم أدار ظهره متجهًا نحو الغرفة، وهو يقول بنبرةٍ حازمة: «ليس قبل أن أرى ما يخبئه لي ذلك الشيخ بالداخل.»أمسكت هالة كتفه بعنف، التفت إليها متعجبًا، فقالت بغضب: «ليس قبل أن أفهم ما يجري، أين هو ذلك الشيخ يا حاتم؟ إنني لا أرى أحدًا.»أشار حاتم إلى الغرفة، فهدأت نبرتها، وهي تسأله ببطء: «ماذا تتوقع أن تجد بالداخل؟»نطقت كلمة «الداخل» بلطف شديد كأنها تخشى سماع الإجابة.تابع آدم الموقف بعينين متحفزتين، وقاطعهما بنبرة ساخرة: «لن يجد شيئًا؛ سيضيع علينا الغداء وفقط!»ابتسم حاتم ابتسامة مطمئنة، وأزاحت هالة يدها عن كتفه ببطء، وبرفقٍ خبطت بها جبهتها، كأنها تعلن ندمها على تسرعها واندفاعها.تحرك حاتم نحو الغرفة ثابت الخطوات، وعيناه تتطلعان نحو المدخل كأنهما تترقبان سرًا دفينًا، بينما لحقت به هالة على الفور، وسارت إلى جواره مستمسكة بذراعه اليمنى بيديها المرتعشتين. وكلما اقتربا من الغرفة انكمشت فتحتا أنفيهما تلقائيًا، كرد فعل لرائحة الرطوبة المعتقة المنبعثة منها.هبت ريحٌ كالدوامة، ودارت بالتراب كأنها تضربه في خلاّط، ورغم الدهشة عبرا من قلب الدوامة.ارتجفت هالة، ليس بسبب البرد فحسب، بل لتوترها المتزايد أيضًا، في حين واصل حاتم سيره بهدوء.أما آدم فقد تبعهما بخطوات متثاقلة، وهو ينظر تجاه الغرب نحو البلدة متمتمًا بحسرة: «ضاع الغداء!»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top