رواية إخلاء سبيل الفصل الخامس عشر

إخلاء سبيل – الفصل ١٥
الفصل الخامس عشر

سرعان ما هدأت الأصوات، وهدأت معها مخاوفهما، إذ اطمأنّا إلى أن ضياء ورفاقه ما زالوا عاجزين عن فتح القرص حتى الآن.

حاول حاتم استعادة تركيزه الذي بدده الصوت المفاجئ، ثم نظر إلى هالة بهدوء، محاولًا أن يبث الطمأنينة في نفسها، ثم أغمض عينيه وبدأ يستحضر شيئًا من ذاكرته، وقال بصوتٍ خافت مستشهدًا بمقولة قديمة: «لقد حان الوقت لإفشاء الأسرار. الرقم أعلى مرتبة وأكثر غموضًا من الحرف. كل ما كان مخفيًا سيظهر في عصر تفتح الوعي.»

سألت هالة بصوت مبهور: «عصر الوعي؟»

رد حاتم بنبرة ثابتة، وهو يشير إلى النقش: «نعم. أعتقد أن هذه المعادلة الرقمية مرتبطة بفكرة الإيزوتيريك.»

ارتدّت رأس هالة للوراء من شدة الحيرة، غير مستوعبة تمامًا ما يقصده، فابتسم وأكمل موضحًا: «علوم الباطن، أو ما يسمى “Esoteric Sciences”.»

ابتسمت هالة بمزيج من الارتباك والسخرية، وقالت: «هل تظن أنني فهمت الآن؟ أرجوك، وضح لي ما تقصده.»

أخذ حاتم نفسًا عميقًا، ثم تابع: «الإيزوتيريك هو علم باطن الإنسان، أي يهتم بالعلاقات الخفية التي تربط بين الظاهر والباطن، والغاية من تعلمه أن الإنسان أعماق روحه وفهم أسرارها وفك رموزها. هذا ما يقولونه على الأقل؛ لكن في الحقيقة، الأمر ليس علمًا بقدر ما هو شيء آخر، شيء غامض.»

نظرت إليه هالة باندهاش وسألت: «ولكن ما علاقة هذا كله بما نحن فيه الآن؟»

ضحك حاتم وقال: «يبدو أننا دخلنا في العصر الجديد.»

ردت بدهشة: «عصر جديد؟!»

تابع حاتم بنبرة واثقة: «هم يسمونه عصر الوعي. أما أنا فأفضل تسميته بعصر الدجل. وأعتقد أنني بدأت أفهم من هو ذلك العجوز الذي أبلغنا بتلك المعادلة الرقمية. إنه ليس مجرد شخص عادي؛ إنه رمز لإنسان العصر الجديد.»

ضاقت عيناها، وبدت غير مستوعبة تمامًا، فسألت بنبرة مترددة: «ماذا تعني بذلك؟»

أكمل حاتم شارحًا: «أصحاب علوم الباطن يرون أن الإنسان في عصر الوعي القادم سيكون أشبه بشيخ حكيم، في يده صولجان الحكمة، وعلى رأسه تاج المحبة.»

قاطعته هالة بنبرة تأملية: «ولكن، من قال إن ذلك العجوز شرير؟ ألا يمكن أن يكون في جانب الخير، وربما يحاول أن يوجّهنا إلى الطريق الصحيح، لا أن يؤذينا؛ أليس هذا ممكنًا؟»

هزّ حاتم رأسه في حيرة وقال: «هذا يعتمد على ما ستوصلنا إليه توجيهاته.»

صمت قليلًا مراقبًا تعبيرات وجهها المتقلبة بين الصدمة والذهول، لا يلبث حاجباها أن يرتفعا سويًا، إلا ويتدلى أحدهما ويترك الآخر مرفوعًا، ما جعل منظرها يبدو طريفًا بالنسبة له، فابتسم وسألها: «هل فهمتِ شيئًا؟»

بادلته الابتسام بشيء من الارتباك وسألت: «على ما أظن. تقصد أن الأرقام التي ذكرها العجوز لها معانٍ خاصة عندهم؛ أليس كذلك؟»

هزّ حاتم رأسه موافقًا وأجاب: «بالتأكيد؛ الرقم [١٠] مثلاً؛ هو مزيج من [١] و[٠]، الرقم [١] يمثل الروح، أما الصفر فيرمز إلى الجسد. عندما يجتمعان يشكلان الإنسان، وفي النهاية ينفصلان وتعود الروح إلى حالتها الأصلية كواحد.»

استمعت هالة باهتمام وعقلها مشوش، فسألته بدهشة: «متى حصلت على كل هذه المعلومات؟»

تنهد وقال: «عندما كنت أبحث عن تفسير ذلك الحلم الغريب.»

نظرت إليه متعجبة، وقالت مستنكرة: «ولكنك لم تخبرنِ بذلك من قبل!»

ابتسم ابتسامةً خفيفة، وقال بهدوء: «لم أرغب في أن أحشو رأسك بأفكار بدت لي حينها غير مهمة. لكن الأمور تغيرت الآن وها نحن محبوسان في قلب هذه المعادلة الغامضة.»

بدت الدهشة على وجهها وهي تقول: «ومع ذلك، لم أسمع من قبل عن هذا العصر الجديد.»

ردّ حاتم مستغربًا: «بالعكس، أتباع حركة العصر الجديد منتشرون في كل مكان، يبشرون بأفكارهم.»

سألت باستغراب: «أين هم؟ لم أسمع عنهم شيئًا.»

أجاب مبتسمًا: «ربما سمعتِ وشاهدتِ بعضًا منهم، بل وتأثرتِ بهم دون أن تدركي ذلك.»

ازداد استغرابها فأضاف: «إنهم في كل مكان تقريبًا، يعلمون الناس كيف يطورون أنفسهم، كيف يحققون أحلامهم، كيف يتحكمون في مصائرهم..د يدّعون أن الكون يستجيب لترددات أفكارهم، وأنهم يجذبون الخير والشر حسب تفكيرهم. هل ما زلتِ تعتقدين أنك لم تسمعِ عنهم؟ ربما كنتِ على حق، ولكن ذلك فقط لأنهم لا يظهرون على حقيقتهم.»

تنفس بعمق وأضاف: «مع الأسف، إنهم مخادعون ودجالون، ليس جميعهم بالطبع، ولكنّ البعض منهم يعلمون ما يفعلون، ويعون حقيقة الدور الخبيث الذي يؤدونه، والبعض يتبعون تلك الأفكار بتقليد أعمى أو قلة بصيرة، ومنهم أيضًا من يرغب حقًا في مساعدة الناس على تحقيق أحلامهم، ولكنْ أصحاب النوايا السيئة منهم يبثون أفكارًا مسمومة، وربما أصابت فكرة شاذة وحيدة إيمان الإنسان في مقتل!»

تأملت كلماته وسألت في ذهول: «هل ضياء هذا واحد من هؤلاء الخبثاء؟»

ابتسم ساخرًا: «واحدٌ منهم؟ بل قولي قائدهم.»

تذكرت هالة أنها قبل دقائق فقط كانت تفكر في طلب المساعدة من ضياء، وشعرت في قرارة نفسها بأنها كانت غبية، فقالت بلهجة توحي باعتذار مبطن: «لهذا السبب إذًا رفضت أن نطلب مساعدة من ضياء!»

افتعل انفعالًا وهو يقول ساخرًا: «لا تذكري اسمه حتى لا نجذبه إلى عالمنا. ألا تؤمنين بقانون الجذب؟»

ابتسمت، فازدادت نبرته سخرية وأكمل: «قانون الجذب! منذ متى والكون يستجيب لذبذبات أفكارنا ومشاعرنا؟ وإن استجاب، فهل يستجيب من تلقاء نفسه؟ أم أن لهذا الكون خالقًا أمره بالاستجابة، أو وضع له قوانين يسير عليها ليؤدي هذا الدور؟ هل للكون إرادة مستقلة؟ وهل يجيب؟ أم أن خالقه هو المجيب؟ هل نطلب من الكون أم من خالقه؟»

أمسكت هالة بذقنها وراحت تفركها وهي تفكر، وبدت كأنها أدركت مغزى كلامه، فقالت بصوت خافت متأمل: «يبدو أن الأمر خطير فعلًا.»

ردّ حاتم بنبرة حادة: «بل وخطير جدًا، وخطورته تكمن في عدم إدراكنا لخطورته.»

ثم نظر إلى الترس الذي يمثل الجزء الأول من معادلة العجوز؛ الرقم [١] في الأعلى، و[١١] رقمًا بالأسفل.

ثم قال وهو يحرك الترس: «هذا الـ [١] الذي غلب الـ [١١].»

بدأ بتحريك الترس نحو الأسفل، فتبعثرت الأرقام، وتحرك الرقم صفر ليأخذ مكانًا بجوار الرقم [١] الذي كان في أعلى الدائرة، فتشكل الرقم [١٠] ، ثم سقط الخط الذي في منتصف الدائرة للأسفل متحولًا لرقم [١]، منضمًا لبقية الأرقام، فصار المجموع أحد عشر رقمًا.

صاحا في ظفر: «[١٠] غلبوا [١١].»

ثم أدار حاتم الترس ليصبح رأسيًا، ففوجئ بأن الصفر عاد إلى موقعه في الأسفل، بينما قفز الرقم [١] وحلّ محله بجوار الرقم [١] الموجود في الأعلى، ليكوّنا سويًا الرقم [١١] في النصف العلوي من الدائرة. أما في النصف السفلي فقد بقي المجموع كما هو أحد عشر رقمًا، بعد انضمام الصفر.

صاحا مرة أخرى في انتصار: «[١١] غلبوا [١١] .»

لكنْ سرعان ما خيّب الترس آمالهما، وعاد إلى حالته الأولى، مما أشعرهما بالحيرة، وسمح لليأس أن يتسلل إلى نفسيهما. لولا أنْ ظهر شيء غريب على الترس؛ فقد تغيّر النمط الذي كان يعمل به، وبدلًا من الأرقام، ظهرت علامات غريبة: [شرطة مائلة / ودائرة صغيرة فارغة ○].

غرق عقل حاتم في سكون، متوقفًا عن إمداده بأي فكرة جديدة تفسر معنى هذه العلامات، بينما انغمست هالة في أفكار كثيرة، تجدف بقارب عصفٍ ذهني وتنازع موجًا في بحرٍ من التيه ظنته بلا شاطئ، حتى رسا قاربها على فكرة بدت لها الأقرب إلى الصواب، من وجهة نظرها على الأقل، فقد باتت تشك في الصواب نفسه.

ورغم ذلك قفزت من قارب شكوكها، لتقول بصوت بدا وكأنه ينبع من أعماق نفسها: «حاتم، أظن أن هذه المعادلة ليست إلا وزنًا من الأوزان، وزن بيت من الشعر!»

Scroll to Top