رواية إخلاء سبيل: الفصل الحادي عشر

إخلاء سبيل ١١
رواية إخلاء سبيل
الفصل الحادي عشر

استعاد آدم هاتفه المحمول بعدما أقنع أصحابه أنه كان يمزح، وأنه ليس بهذا الغباء ليبلغ الشرطة بسبب مخالفة في الملعب، ثم توجه ناحية الخط الجانبي، وتركهم منشغلين بمواصلة المباراة بضجيج مشاحناتهم المعتادة الذي يهز العتل، وجلس غارقًا في أفكاره، يشاهد اللعب بنظرٍ مشوش، وكلما تعمق في التفكير زادت دقات قلبه.

«يجب أن أصل إلى حاتم وهالة، لا بد أنهما في مكانٍ ما، ماذا فعلت بحاتم؟ لماذا دللته على هذا المكان المخيف؟ لماذا أخفيت عنه الأساطير التي تحوم حول العتل؟ تلك الأساطير التي تجاهلتها طويلًا، وطالما أقنعت نفسي بأنها مجرد حكايات قديمة لا تستحق الاهتمام، والآن نبتت في قلبي شكوك لم تخطر ببالي من قبل: «ما الذي جعلني أجزم بأنها مجرد أساطير؟ ألا يمكن أن تكون حقيقة؟»

ازداد لوعة وتحسرًا لأنه لم يخبر حاتم عن «مَـصْرَف نوّار ومحاسن»؛ المصرف القريب من العتل، الذي طالما حامت حوله العديد من الحكايات الغريبة؛ لعلّ أكثر هذه الحكايات انتشارًا، والتي اقتنع بها آدم جزئيًا، حكاية نوار وزوجته محاسن؛ ففي ستينيات القرن الماضي، حين كانت تلك الأراضي معزولة وخالية تقريبًا من البشر، كان الزوجان يعملان في زراعة الأرض، ولم يكن لديهما جيران أو أحد يشاركهُما عزلتهما.

وذات ليلة مظلمة، نزل نوار إلى المصرف ليصطاد، وبينما كان يسير في الظلام الموحش، شعر بشيء ضخم يتحرك تحت الماء، فإذا به يجد قرموطًا ضخم الحجم، فنادى على زوجته محاسن لتعينه في استخراجه من المصرف فانضمت إليه، وجعلا يجرّان القرموط بكل ما أوتيا من قوة، لكنه قاومهما بشدة، وأخذ الماء يرتج ارتجاجًا عنيفًا كأنما المصرف نفسه يتحرك معهما، موحيًا بكبر حجم الصيد الذي أوقعاه.

مرت دقائق ثقيلة، ثم هدأ المصرف، وسكن الماء؛ وفي الصباح، عُثر عليهما جثتين! منذ ذلك الحين، شاع بين أهل القرية أن ما أصابهما كان بفعل عفريت من الجن، وردّدوا أن هناك علامة على ذلك تحدث كل ليلة وهي ضوء غريب لامع يتوهج في ظلمة الليل، يجوب المصرف شمالًا وجنوبًا! وآدم بنفسه قد شاهد هذا الضوء من سطح بيته أكثر من مرة؛ وبرغم ذلك ظلّ سؤالٌ واحدٌ يشغل باله ويطارده دائمًا: «مَن الذي رأى نوار ومحاسن وهما يصارعان القرموط قبل أن يموتا؟»، ولم يجبه أحد على هذا السؤال.

«فمن أين إذن عرف الناس ما جرى لهما وطريقة موتهما؟ من أين عرف الناس كل تلك التفاصيل؟ كيف انتشرت القصة بهذه الدقة ولم يكن هناك شاهد عليها؟»

سلّم آدم بالقصة كما هي، وكم من قصة يسلم بها دون تفكير؛ والآن، يجلس عاجزًا عن اتخاذ أي خطوة، فقد قرر صرف النظر عن إبلاغ الشرطة، حتى لا يتورط في مشكلة مع ضياء من جانب، ويفشل في إثبات صحة بلاغه من جانب آخر، وهو أيضًا لا يستطيع أن يحكي للناس ما جرى؛ لأن حكايته ستظل موضع شكٍ دائم، مثلما ارتاب هو من قبل في حكاية نوّار ومحاسن.

ذكّره اختفاء حاتم وهالة في الغرفة المهجورة باختفاء نوّار ومحاسن من قبل، فأحسّ بالخطر والضيق، واشتدّ خفقان قلبه أكثر، وتضخم شعوره بالذنب حتّـى صار يحاصره.

وفي هذه اللحظة، قطع رنينُ هاتفه صخب أفكاره الصامتة، فنظر إلى الشاشة مذهولًا، واتسعت عيناه تدريجيًا؛ فاجأه الاسم الذي ظهر: «حاتم‼»

فتح الخط مباشرة سائلًا في لهفة: «حاتم، أين أنت؟»، أجابه صوت غليظ بكل برود: «حاتم من يا أستاذ؟ تعالَ خذ هاتفك وأغراضك من السيارة.»

تبدّلت لهفته حزنًا عميقًا؛ ليس لفقدان حاتم فحسب، بل لفقدان سيارته أيضًا، لا يعرف كيف باع أبوه السيارة بغير توكيل رسمي من حاتم ولكنه فعلها! ويبدو أنه باعها لمجرمٍ عتيد الإجرام، لا تهمه الأوراق، ولا المستندات، كما يبدو أنه إما سيستخدمها في عمليات سرقة أو سطو بعد طمس لوحاتها، أو سيقوم بتقطيعها وبيع أجزائها.

تساءل آدم في نفسه بحيرة: «ما هذا التناقض العجيب؟! يشتري سيارة كل الشواهد تدل على أنها مسروقة، وينوي استخدامها في أمور غير قانونية بالتأكيد، ومع ذلك يتصل بي ليرد لي الهاتف والأغراض! ما هذا المجرم الأمين؟!»

انتابته أفكار متضاربة؛ أيثق في هذا اللص ويذهب إليه، أم يبلغ الشرطة عن اختفاء حاتم وهالة وعن هذا اللص بالمرة؟

اتخذ قراره سريعًا، فطلب من أحد أصدقائه أن يصطحبه على الموتوسيكل لقضاء مشوار عاجل، ولكنه فوجئ برفض صاحبه، فاندفع آدم جاذبًا صاحبه من قفاه وهو على وشك إحراز هدف في المباراة، فهتف فيه صاحبه بضيق: «عندك الموتوسيكل، المفتاح فيه، اذهب وحدك.»

تردّد آدم، فهو لا يجيد السياقة، كذلك يخشى أن يلتقي بأبيه فيأخذ منه الموتوسيكل ويبيعه مثلما فعل مع السيارة. إلاّ أنه لم يكشف عن مخاوفه لصاحبه، حتى لا يرجع في كلامه.

ركب الموتوسيكل وشغّله، وزوّد البنـزين بإفراط، فقفز الموتوسيكل لأعلى، مستندًا على عجلته الخلفية وحدها، حاول السيطرة عليه، لم يتمكن من ترويضه، فواصل السير به على هذه الوضعية حتى غادر العتل، وصاحبه مصدوم من هذا المشهد، فوقف واضعًا يده على صدره يشهق بقوة؛ ليس بسبب الإرهاق من اللعب، بل بسبب موتوسيكله الذي سحق آدم كرامته أمام الجميع.

عشر دقائق استغرقها آدم للوصول إلى المجرم الأمين، ليجد أمامه شابًا ضخم الجثة، حليق الرأس، عضلاته بارزة، وعيناه جاحظتان، منظره يبعث على القلق والتوتر.

دفع الشاب الهاتف وبعض الأوراق بغلظة في يد آدم، فتلقفها بسرعة وبدأ يتفحص الأوراق بقلق، لمح رخصة السيارة ضمن الأوراق، رفعها لأعلى ولوح بها وقال في سذاجة: «الرخصة، خذ الرخصة.»

نظر إليه اللص نظرة احتقار، ثم قهقه بضحكة ساخرة، قائلًا بعنف: «اغرب عن وجهي.»

ارتجف آدم للحظة، دون أن يتحرك، تمالك نفسه، ونظر إليه بتحدٍّ، ثم سأله بلهجة بدت فيها لامبالاة، رغم ارتباكه الداخلي: «هل تستطيع مساعدتي؟»

توقفت ضحكة اللص فجأة، ونظر إليه متفحصًا، وبدا غير معتاد على هذا النوع من الجرأة من شخص في موقف آدم، ولم يكن يدرِ أن آدم نفسه لا يعرف من أين جاءته هذه الجرأة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top