أنا من؟

قصيدة في حكاية: أنا من؟

تَنْتَصِفُ اللَّيْلَةُ، وَالْهَوَاءُ فِي الْغُرْفَةِ ثَقِيلٌ كَأَنَّهُ يَحْمِلُ غُبَارَ أَعْمَارٍ مَنْسِيَّةْ. يَقِفُ أَمَامَ مِرْآةِ الْحَمَّامِ الْبَاهِتَةِ، لِيَرَى مَلَامِحَهُ، بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ لِيَبْحَثَ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ مِنْ قَبْلْ. لَكِنَّ الْمِرْآةَ لَا تَعْكِسُ إِلَّا وَجْهًا غَرِيبًا، عَيْنَيْنِ تَحْمِلَانِ مِنَ التَّعَبِ مَا يَكْفِي لِإِطْفَاءِ نُجُومِ السَّمَاءْ. يُحَدِّقُ فِي ذَلِكَ الشَّبَحِ الَّذِي يُحَدِّقُ فِيهْ، وَتَنْفَجِرُ الْأَسْئِلَةُ مِنْ أَعْمَاقِهِ كَحُمَمٍ بَارِدَةْ، بِلَا صَوْتٍ، لَكِنَّهَا تَحْرِقُ كُلَّ شَيْءْ.

أَنَا مَنْ؟

أَنَا زَفْرَةُ الشَّيْطَانِ فِي جَوْفِ الْجَحِيمْ
أَمْ وَفْرَةُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبٍ رَحِيمْ
أَمْ طَفْرَةُ الْإِتْقَانِ وَالْعَمَلِ السَّلِيمْ
أَمْ شَفْرَةُ الْإِهْمَالِ وَقِلَّةِ التَّنْظِيمْ

تَنْسَابُ الْكَلِمَاتُ فِي عَقْلِهِ كَوَشْوَشَةِ أَشْبَاحْ، يَرَى يَدَيْهِ اللَّتَيْنِ أَصْبَحَتْ خُطُوطُهُمَا بارزةً كَبَحْرٍ مَيِّتْ، يَرَى الشُّقُوقَ الدَّقِيقَةَ حَوْلَ عَيْنَيْهْ، كُلُّ شَقٍّ قِصَّةٌ وَحْدَهْ، وكُلُّ قِصَّةٍ سُؤَالٌ.

أَنَا مَنْ؟

أَنَا رَعْشَةُ الْمَجْهُولِ فِي صَدْرِ السُّكُونْ
أَمْ دَمْعَةُ الْمَقْهُورِ فِي لَيْلِ السُّجُونْ
أَمْ وَمْضَةُ الْإِحْسَاسِ فِي دَمْعِ الْعُيُونْ
أَمْ قُوَّةُ الْإِنْسَانِ إِنْ ضَاعَ الْيَقِينْ

يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ بِقُوَّةْ، كَأَنَّهُ يَرْجُو أَنْ يَمْحُوَ الصُّورَةَ، أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا قَبْلَ هَذَا الشَّتَاتْ. لَكِنَّ الصُّورَةَ لَا تَسْكُنُ الزُّجَاجْ، بَلْ تَسْكُنُ رُوحَهُ هُوَ … هُوَ؟! لَمْ يَعُدْ يَعْرِفُ الْحُدُودَ الْفَاصِلَةَ بَيْنَ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَمَا فُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونْ.

أَنَا مَنْ؟

أَنَا ذَلِكَ الْمَنْفِيُّ فِي صَمْتٍ حَزِينْ
فَرَحٌ أَنَا أَمْ أَنَا جُرْحٌ دَفِينْ
أَسِيرٌ أَنَا أَمْ أَنَا حُرٌّ سَجِينْ
لِسَانُ حَقٍّ صَادِقٍ أَمْ لَا أُبِينْ

يَبْقَى السُّؤَالُ الْأَخِيرُ مُعَلَّقًا فِي فَرَاغِ غُرْفَتِهْ، يَتَرَدَّدُ صَدَاهُ بَيْنَ جُدْرَانِ صَمْتِهْ. لَا يَجِدُ جَوَابًا، فَيُدِيرُ ظَهْرَهُ لِلْمِرْآةِ، وَيَبْقَى الشَّبَحُ هُنَاكْ، يُرَاقِبُهُ فِي الظَّلَامْ.

Scroll to Top