في تلك اللحظة، استطاع جاد قطع نصف حواف القرص الدائري فتدلّى للأسفل، وبقي النصف الآخر من القرص عالقًا، وبتسليط مزيد من الليزر على النصف الآخر، استطاع قطع الجزء المتبقي، فانهار القرص إلى أرضية الغرفة السفلية.
صاح ضياء فرحًا، فهنّأه إبراهيم، وسأله عن كيفية النـزول إلى الأسفل، فأجابه ضياء باقتضاب: «ستجد سلمًا مطويًا في شنطة السيارة.»
أشار إبراهيم إلى بهاء لينفذ الأوامر، فانطلق مسرعًا، وعاد بالسلم المصنوع من حبلين سميكين بينهما قطع خشبية متراصة بانتظام.
ألقى بالسلم للأسفل، وثبّت طرفه العلوي في حديدة غرزها في أرضية الغرفة.
نزل ضياء ومرافقوه إلى الغرفة السفلية، وبدأوا في تفتيش المكان.
سرعان ما برز أمامهم الترس الدائري، لكنهم وقفوا حائرين، غير قادرين على فك شفرته أو فهم آليته.
مع تزايد الظلام ونفاد صبر ضياء، أمرهم أخيرًا بكسر الترس والبحث عما وراءه.
بدأوا تنفيذ أوامره بحذر، وهم يتحسسون كل خطوة وحركة في هذا المكان الغامض، بين الخوف والطمع.
في هذه الأثناء، كان آدم غارقًا في حيرته العميقة، تتقاذفه أمواج الشكوك، فلم يعد قادرًا على استيعاب ما يحدث.
«كيف؟ وأين؟ ولماذا؟» كل هذه الأسئلة تدور في رأسه بلا توقف، ومع ذلك، لم يجد لأي منها إجابة.
بدأ يشك في سلامة قواه العقلية، تساءل في صمت: «هل قابلتُ حاتم وهالة بالفعل؟!»
كان متأكدًا أنه رآهما، وإلا كيف عرف أن حاتم قد تزوج؟ وكيف عرف اسم زوجته هالة؟ الاسم الذي وقف شاهدًا في محكمة عقله على لقائه بهما. «ولكن ليس هذا دليلاً، فهذه المعلومات قد عرفتها من اتصالاتي به، دون التقاء.» تلك الفكرة الأخيرة زعزعته، وولّدت شكوكًا جديدة: «أليس من الممكن أن يكون كل هذا من صنع خيالي؟ ربما حاتم وهالة من صنع عقلي المُتعَب، ربما لم أقابلهما يومًا، ربما لا أعرف أحدًا بهذا الاسم أصلًا، وإلا… أين ذهبا؟»
جلس متوترًا، ممسكًا هاتف والده المحمول بتردد، يفكر في إعادة الاتصال بالشرطة، والقلق ينهش فيه من داخله، يحدق في شاشة الهاتف بلا وعي، ينتظر من يعطيه الجواب على أسئلته المعلقة، تحدث صوته الداخلي إليه بنبرة حازمة ينهره: «لا بد أن تكلمهم. لابد أن تعرف أين حاتم وهالة.»
ملأ صوته الغرفة وهو يقول بتصميم مشجعًا نفسه: «سأتصل بالشرطة.»
قبل أن يضغط على زر الاتصال، فُتح الباب فجأة، ودخل والده مسرعًا، واختطف الهاتف من يده، قائلًا بنبرة لومٍ عنيفة: «أتريد أن تبلغ عن والدك؟! ألم أبع السيارة من أجلك؟! ألم أشترِ لك الذهب؟!»
نظر إلى والدة نظرة بائسة. شعر بالعجز يحيط به من كل جانب، وقبل أن يتفوه بكلمة، أضاف والده بصوت هادئ، وهو يولّيه ظهره خارجًا: «الشيخ عبد الواحد في انتظارك بالأسفل.»
تجمد آدم لحظة، وهو يفكر في كلمات والده.
«الشيخ عبد الواحد؟! لماذا؟ لم أتحدث معه عن شيء..!! لقد أوصلني إلى البيت في صمت.»
سرى التوتر في كل مفاصل آدم، شعر بضعف قدميه وكأنهما لا تستطيعان حمل جسده المثقل بالحزن والتردد. نزل للطابق السفلي، تلقاه الشيخ عبد الواحد بالترحيب وهو يتناول الشاي، بينما ظل آدم صامتًا حزينًا، عيناه تائهتان في الفراغ، وصمته ينطق بالأسئلة، أحس أنه هو الضيف والشيخ عبد الواحد هو صاحب البيت. حدث نفسه متسائلاً: «ماذا لو كانت هذه هي الحقيقة؟ ماذا لو لم يكن هذا بيتي، بل بيت الشيخ عبد الواحد؟ ماذا لو كنت أنا من ذهب إليه، وليس هو من أتاني؟»
جلس على الكنبة إلى جواره، ونظر تجاهه بعينين تحملان سؤالًا مهذبًا: «ماذا تريد؟»
تأمل الشيخ وجه آدم المتوتر، وأدرك قلقه دون أن ينبس بكلمة، ثم قال بصوتٍ هادئ يملؤه الاطمئنان: «لقد سمعت عما حدث. فأنا كما تعلم أعمل في مزرعة في العتل، قريبة من الغرفة المهجورة، ورأيت حركة غريبة هناك اليوم. وعندما عدت وجدت الشباب في البلدة كلهم يتكلمون عما جرى، فاستغربت أنك كنت معي منذ قليل ولم تخبرنِ، ولكنني قررت الوقوف إلى جانبك والبحث عن أصدقائك، وأرى أن أفضل حل الآن أن نذهب إلى هناك سويًا، قبل أن نتخذ أي خطوة أخرى.»
بثّت كلماته شعورًا بالراحة في صدر آدم، إذ وجد من يقف إلى جانبه، بعد أن تخلى عنه حالة، ولكنه لم يعد يثق في أحد. تنهد بيأس وقال: «ذهبت إلى هناك كثيرًا دون جدوى.»
ردّ عليه الشيخ بلطف: «أعرف ذلك؛ ولكن يمكننا الآن البحث بهدوء، لعلنا نجد في هذه الغرفة ما يرشدنا.»
شعر آدم بأن هناك أملًا صغيرًا يتسلل إلى قلبه، حاول استيعاب كلمات الشيخ، ثم قال بعد تردد قصير: «لا مانع، لنذهب ونرَ.»
نهض الشيخ عبد الواحد، قائلًا: «هيا بنا.»
وصل آدم والشيخ عبد الواحد إلى الغرفة المهجورة، مستقلين الدراجة، الطريق يبدو أشد ظلمة مما كان عليه في المرات السابقة، والعتل أشد غموضًا، وآدم أشد انقباضًا، والرياح أشد عاصفةً، والجو أشد برودة رغم حرارة الصيف.
تقدم الشيخ بخطوات واثقة نحو الباب، وآدم يترنح من خلفه، تكاد تطيح به ريح الهلع، والحذر يعرقل قدميه، والأفكار دوامة في رأسه بلا توقف، ورائحة الرطوبة تنبعث من الغرفة تلكمهم، وهما يحتميان منها بكتم أنفيهما، ويفحصان الغرفة في صمت مطبق.
همس آدم بنبرة مرتابة: «لا أحد هنا! هيا بنا.»
همّ آدم بالخروج على عجل، وهمّ الشيخ يتبعه، لولا صوت غريب. عادا مسرعين نحو مصدر الصوت، سلّط الشيخ كشافه، فإذا بهما يُفاجآن بوجود حالة، جالسًا منكمشًا في زاوية الغرفة، عيناه جاحظتان، ومظهره مضطرب، كأنه محتجز في هذا المكان منذ فترة طويلة.
هتف آدم باندهاشٍ شديد: «حالة؟! ماذا تفعل هنا؟! ألم تتركنِ وحدي وتهرب؟!»
نظر حالة إليهما نظرة شاردة، لا يرى شيئًا، لكنه ميّز صوت آدم، أرغمه ضوء الكشاف على إغماض عينيه، ثم اكتفى بالتقاط نفسٍ لاهث، ولاذ بالصمت، كأنه يحتاج لهدنة كي يهدأ.
بعد لحظاتٍ من الصمت، تكلم حالة بإعياء، وكلامه متقطع: «بعد أن تركتك… قررت العودة إلى هنا… أتابع هذه البعثة… وأتحين الفرصة… حتى أسرق… أي شيء… مما يعثرون عليه.»
تقدّم الشيخ عبد الواحد بخطوات حذرة، ثم سأله بصرامة: «تسرق؟ وماذا جرى بعد ذلك؟!»
امتعض حالة، وأشار للشيخ أن يقف مكانه، نظر الشيخ إلى الأسفل، فوجد حفرة عميقة تحت قدميه، عاود النظر إلى حالة، الذي واصل الكلام بصوت متقطعٍ ضعيف، يقص ما حدث: «كانوا هنا… ثم اختفوا… فجأة..!!»
سرت قشعريرة خفيفة في جسد آدم، وتبادل مع الشيخ نظرة قلق، فأكمل حالة بذهول: «صديقك إبراهيم ومن معه… انشقت الأرض وابتلعتهم.»
التفت الشيخ عبد الواحد إلى حالة، محددًا فيه النظر، يحاول استنطاقه بمزيد من التفاصيل، ثم قال بنبرةٍ جادة: «ابتلعتهم! لابد أن نفتش المكان جيدًا.»
ثم استدار ناحية آدم، قائلًا بصوت منخفض، وهو يشير إلى الحفرة الدائرية: «يبدو أنّ صديقك وزوجته قد سقطا هنا أيضًا… نأمل أن يكونا بخير… فقد مرّ يوم طويل… لا بد أن ننقذهما وننقذ الجميع.»
صمت آدم، وقد تعاظم شعور القلق في داخله، كدخان تصاعد من حريق تجدد، ينظر للأرض تحت قدميه، يوشك أن يكلمها فيسألها عما تخفي بداخلها.