تمسّك حاتم بأن الجملة المطلوبة ترتبط بالشيطان، وعبرّ عن ذلك شارحًا: «في رأيي؛ أن العلوم الباطنية وحي من الشيطان، يزخرفها لأوليائه، والمدارس والحركات الشيطانية لم ينشئها ويشرف عليها إلاّ الشيطان بنفسه، وإن كان متخفيًا فأثره جلي.»
هزت هالة رأسها بتقبُّل، واعتبرت أنهما وصلا لحل وسط، من شأنه أن يؤلف بين قلبيهما وعقليهما؛ فهي قد توصلت إلى أن حل اللغز في جملة معينة، عن طريق معرفتها بالشعر وأوزانه، وتوصل هو للتوّ إلى الفكرة التي تبنى منها هذه الجملة، عن طريق معرفته بالإيزوتيريك وحركة العصر الجديد وعلاقتهما بالشيطان.
الآن؛ وقفا على أرضية مشتركة، يقلّبان الرأي من كل الوجوه، يتبادلان تساؤلات مفعمة بالحماسة، طارت تساؤلات كثيرة، وحطّت تساؤلات أخرى، أقلعوا عن بعضها، وتمسّكوا بالبعض الآخر.
«… ليفي!» التقطت أذنا هالة هذه الكلمة بتعجب، فسألته عن معناها، فأجابها حاتم بدهشة: «ألا تعرفينه؟ أنتوني ليفي، مؤسس كنيسة الشيطان، الذي ألّف كتابًا غريبًا أسماه إنجيل الشيطان.»
تعجبت هالة من اسم ذلك الكتاب، الذي تسمع عنه للمرة الأولى، رغم أن حواراتها مع حاتم كانت تتناول الكثير من المواضيع المشابهة، تملكها الفضول فسألت سريعًا: «وما محتوى ذلك الكتاب؟»
أجابها محاولاً الاختصار: «أفضل وصف يمكن إسباغه على هذا الكتاب هو ما قاله مؤلفه عنه فيه صراحةً: [هنا تجد الفكر الشيطاني من وجهة نظر شيطانية حقيقية]، هذا هو الكتاب ببساطة.»
سألت هالة بدهشة، وقد ازداد فضولها: «أتعني أن هذا الكتاب مقدس عند أتباع الشيطان؟»
هزّ حاتم رأسه مؤيدًا: «بالتأكيد، إنه تبشير صريح بالشيطان ودعوة واضحة إلى اتّبَاعه.»
نظرت إليه بذهول، وسألت: «كيف هذا؟»
أغمض عينيه للحظات، استعاد خلالها ذكرياته مع الكتاب، وقال بنبرة لم تخلُ من حزن: «عندما طالعت ذلك الكتاب – الذي وصلت إليه بصعوبة بالغة – لفتت انتباهي عدة جمل غريبة يقول فيها ليفي: [وُلِدت شعلة جديدة من النور، من رحم الليل، وقام لوسيفر، مرةً أخرى، ليعلن أن هذا هو عصر الشيطان… الشيطان يحكم الأرض، فجر السحر، والحكمة الطاهرة.]»
ازدادت دهشتها فتابع حاتم: «ألا تذكرين عندما قلت لك إن ما يسمى بعلم الإيزوتيريك ليس علمًا بقدر ما هو شيء آخر؟»
بدأت تربط الخيوط ببعضها، فأومأت برأسها أنْ نعم، فاستمر يقول: «ربما كان علمًا، لكنْ نوع من علوم السحر! فنحن على مشارف عصر السحر والدجل.»
اتسعت عيناها، وقالت بقلق: «أتعني أننا في عصر الشيطان؟!»
أومأ حاتم برأسه ببطء، وعيناه تحملان عبء دهور من المعرفة الخفية، وقال في أسى: «هذه هي اللعبة الكبرى. الشيطان! المتمرد القديم! يحارب بلا هوادة للعودة والسيطرة، ليستعيد عرشه المزعوم، إنه يرى نفسه الأحق بحكم الأرض. يومًا ما، رفض السجود لآدم، بتعالٍ، طُرد من الجنة بسبب غروره واستكباره.»
تابع حاتم، وصوته يكتسي نبرة من الحدة: «منذ ذلك الحين، وهو ينصب فخاخه للإنسان، يغويه بالشهوات والملذات الزائفة. في الماضي، كانت الملائكة تنـزل بالوحي والرسالات، لتعيدنا إلى الطريق الصحيح؛ أما الآن، ومع الرسالة الأخيرة، أدرك الشيطان أن الخناق يضيق عليه، لم يعد أمامه إلا محاولة أخيرة ليقتنص الحكم من الإنسان. يقول ليفي: [إذا كان العالم قد تغيّر، فلماذا التمسك بحبائل أديان تحتضر؟ أتباع الأديان أنفسهم ينكرون كتبهم المقدسة، ويعظون بفلسفات شيطانية، فلماذا لا نسميها باسمها الحقيقي (الشيطانية)؟»
صمت حاتم لحظة، أمعن فيها النظر لهالة، وقد انعكست في عينيه أفكار عميقة، قبل أن يسألها بصوت هادئ: «أليست هذه دعوة صريحة للخضوع للشيطان؟ إنه يقول للمؤمنين: إذا كنتم قد تخليتم عن دينكم بأفعالكم، فلتعترفوا بألسنتكم أنكم شيطانيون.»
أومأت هالة برأسها، وأجابت بنبرة قلق: «بلى. إنها دعوة للاستسلام الكامل، لتسليم أنفسنا له بلا مقاومة.»
هزّ حاتم رأسه ببطء، وقال بتأمل: «هو كذلك فعلًا؛ لكنه تناسى شيئًا مهمًا، صحيح أننا قد نكون أحيانًا أسرى له، وأننا نقع في فخ تبعيته، لكن هذا لا يعني أننا بعيدون عن الحق إلى الأبد. كل ما في الأمر أننا كبشر نملك القدرة على العودة. طالما أرواحنا ما زالت تسكن أجسادنا، ما زال لدينا الفرصة للرجوع إلى الحق. الشيطان يريد أن يقنعنا بأن خطأ واحدًا يعني أننا عبيده إلى الأبد، لكن الحقيقة ليست كذلك.»
تأمل وجه هالة المرهق، قبل أن يكمل بنبرة مفعمة بالإصرار: «ليس معنى أننا قد نخطئ، أن نكون أتباعًا للشيطان؛ بل يمكننا دائمًا التحرر من قيوده في لحظة توبة واحدة، حتى ولو كانت آخر لحظة قبل موتنا مباشرة. الخالق أعطانا هذه الرحمة، فرصة للعودة إليه في أي لحظة. هذا هو ما يخشاه الشيطان حقًا؛ الرحمة الإلهية التي تظل مفتوحة في وجوهنا دائمًا.»
ابتسمت هالة، وسألته بلطف: «إذًا، الشيطان يحاول إقناعنا باليأس؟»
أجابها بنبرة ملؤها اليقين: «بالضبط. إنه يريد أن نفقد الأمل، أن نشعر أننا بلا مخرج؛ لكن الحقيقة هي أننا قادرون على الفكاك منه في أي وقت. يريد أن يوهمنا بأننا عبيده، وألاّ نحاول مقاومته أو فك القيود؛ لكن باب الرحمة مفتوح دائمًا. لم يغلقه الخالق يومًا في وجه أحد، وهذا ما يحاول الشيطان أن يُخفيه عنّا.»
زمّت شفتيها، وقالت بنبرة متأملة: «الشيطان هو الغويّ المضلّ المبين.»
أومأ حاتم موافقًا: «بالتأكيد. الشيطان عدو للإنسان، استكبر، تمرّد، أُنْظِرَ إلى يوم الوقت المعلوم، و…»
استوقفته هالة قائلة بحماس: «إذا كنا نبحث في الاتجاه الصحيح، فالجملة التي نبحث عنها لها علاقة بتمرد الشيطان، وإخلاء سبيله إلى أجلٍ مسمى.»
وافقها حاتم على استنتاجها. شعرا بأنهما يقتربان من الحل،د. لم تهدر هالة وقتًا، بل شرعت على الفور في صياغة الجمل وتركيبها؛ محاولَةً الوصول إلى جملة تتناسب مع القاعدة: [٢٢] حرفًا متحركًا و[١١] حرفًا ساكنًا.
توصلت في النهاية إلى جملة أولية: «تمرد الشيطان وتم إخلاء سبيله إلى أجل مسمى.»
كتبتها عروضيًا فأضحت: «تمرْرَدشْشَيْطَانوتمْمَإخْلاءُسبيلهِإلاأجلنْمسمْما»
ثم قامت بكتابة وزن هذه الجملة: «//○//○/○/○///○//○/○///○////○////○//○/○»
وبإحصاء عدد الأحرف المتحركة وجداها [٢٥]، والأحرف الساكنة [١٢]
تبادلا نظرة إحباط، فالجملة تبدو منطقية وصحيحة، لكن العدد ليس كما توقعا.
رغم ذلك لم يفقدا الأمل، وبدا لهما أن الأمر يمكن تداركه بتعديل بعض الأحرف في الجملة، لتتناسب مع القاعدة التي توصلا إليها: [٢٢] حرفًا متحركًا و[١١] حرفًا ساكنًا.
بدأ حاتم يقترح تغييرات طفيفة في الكلمات: «ربما يمكننا استخدام كلمات مرادفة أقصر، أو ربما تعديل بعض الحركات والسكنات في الجملة.»
استدركت هالة بشغف: «نعم، أو نعيد ترتيب الكلمات بطريقة مختلفة قليلاً، دون تغيير المعنى، قد نصل إلى الجملة المطلوبة بهذا الأسلوب.»
شرعا في تعديل الجملة بحرص، متمسكين بضرورة الحفاظ على المعنى الأساسي، مع تحقيق التوازن بين الأحرف المتحركة والساكنة.
بعد عدة محاولات، توصلا إلى صياغة أخرى للمعنى نفسه: «تمرد الشيطان وأخلي سبيله لأجل مسمى»
وبالكتابة العروضية: «تمرْرَدشْشَيْطَانوأخْلِيَسبيلهِلأجلنْمسمْمَا»
استخرجا وزنها: «//○//○/○/○///○////○//////○//○/○»
وبالإحصاء، تبين أن عدد الأحرف المتحركة بلغ [٢٢] كما هو مطلوب، فانفرجت أساريرهما، ولكنهما اكتشفا أن عدد الأحرف الساكنة [٩] فقط..!
كادت نشوة الوصول أن تتلاشى، لولا أن جدّدا العزم على إيجاد الصيغة الصحيحة، متشبثين بالأمل الذي أنبأهما أنهما باتا قريبين.
تبادلا الأفكار حول كيفية إضافة حرفين ساكنين، دون أن ينتقصا من الحروف المتحركة.
اقترح حاتم عدة تعديلات، حتى توصلا إلى اقتراح لاقى استحسان هالة: «ماذا لو استبدلنا عبارة [لأجلٍ مسمى] بـ [للأجل المسمى]؟»
ثم استدرك مضيفًا: «خصوصًا أن الأجل الممنوح للشيطان هو أجل معلوم، والأفضل أن يستخدم بصيغة التعريف لا التنكير.»
نجحا بهذا التعديل في إضافة حرف ساكن، دون أن ينتقصا من الأحرف المتحركة.
ومع بقاء حرف ساكن واحد مفقود، استمرت محاولاتهما حتى فطنت هالة إلى شيء مهم، فسألت سؤالًا ذا مغزى: «هل [سبيل] مؤنث أم مذكر؟»
حار فكره في إيجاد جواب لهذا السؤال، فسارعت هالة إلى طرح المعلومة التي تعرفها: «هذه الكلمة تستعمل بصيغتي التذكير والتأنيث على السواء.»
بعد برهة تفكير، تذّكر حاتم آيةً من القرآن: «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله»
قرأ حاتم الآية، ثم عقّب: «سبيلي هنا جاءت مؤنثة؛ وأشير إليها باسم الإشارة [هذه].»
تأكدت المعلومة، فشرعا في صوغ المعنى من جديد ليصبح: «تمرّد الشيطان وأخليت سبيله للأجل المسمى»
وعروضيًا: «تمرْرَدشْشَيْطَانوأخْلِيَتسبيلهِللْأجللْمُسمْمَا»
ووزنها: «//○//○/○/○///○//○//○///○///○//○/○»
وبإحصاء عدد الأحرف المتحركة وجدا أنها [٢٢]
وعدد الأحرف الساكنة [١١]
أخيرًا اكتملت المعادلة.
قفز حاتم ضاربا بيده اليمنى في الهواء، ثم خبط كفه بكف هالة احتفالا بالانتصار.
انكبّ حاتم على الترس، يديره يمينًا ويسارًا، حتى استقر على اتجاه الشمال، مُشَكِّلاً الجزء الأول من الوزن الذي توصلا إليه من قبل: [//○//○/○/○]
ثم بإدارته لناحية الجنوب، شكّل الجزء التالي: [///○//○]
وناحية الشرق، تشكّل هذا الجزء: [//○///○]
وأخيرًا، ناحية الغرب، تشكّل الجزء الأخير: [///○//○/○]
زُلزلت الأرض تحتهما، وانشقت أرضية الغرفة. ابتلعهما نفق دائري معتم بارد، وانغلق وراءهما، ظلاّ يدوران داخله، منجذبين للأسفل بقوة، صرخاتهما المكبوتة تتصاعد، وجسداهما يتلوّيان ألمًا.
بعد لحظات، سقطا متكوّرين في غرفة جديدة ضيقة، بلا أي مخرج مرئي.