وجد آدم في هذا اللص بغيته؛ شابٌ كعجوزٍ خبير، مجرمٌ ولكنْ أمين، والأهم أنه مغامر؛ فلن يتردد في الذهاب معه إلى أي مكان، وقوي؛ فلن يخشى مواجهة ضياء، وفوق كل ذلك؛ لا شيء لديه ليخسره.
حكى له آدم ما قد جرى، فلاحظ الشكّ الساخر في نظرته؛ وفور أن انتهى وقف صامتًا مترقبًا رد فعله.
قلّب اللص رخصة السيارة بأطراف أصابعه، قرأ بيانات المالك بصوت خافت: «حاتم سليم!»، امتلأ وجهه بجديّة دلّت على تصديقه للحكاية، وأبدى موافقته على التوجه نحو العتل للبحث عن حاتم وزوجته.
همّ آدم أن يسأله عن المقابل؛ إلا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة، وقرر ألا يستخدم موهبته في السذاجة هذه المرة. ومع بدء تحركهما بالسيارة طلب آدم منه التوقف لحمل موتوسيكل صاحبه معهما، خشية أن يقوم والده ببيعه أيضًا؛ فرغم أن المشتري معه الآن، إلا أن والده لن يعدم مشتريًا جديدًا.
حمّلا الموتوسيكل فوق السيارة، وانطلقا باتجاه المشرق، فمرّا على ترعة تُسمى «ترعة الكفاح»؛ لطالما تساءل آدم عن سبب هذه التسمية دون أن يجد من يجيبه، ربما توارثها الناس عن آبائهم كما هي، أو ربما كانت هذه الترعة شاهدة على قصة عظيمة من الكفاح ضد الاحتلال الإنجليزي، خاصة أن المنطقة بأكملها قريبة من بحيرة البرلس، حيث دارت المعارك.
انطلقا عبر الأراضي الزراعية المروية بمياه الطارة، فاسترخى آدم قليلًا بفعل الهواء المشبع برائحة النباتات العطرة الممتزجة بطين الأرض الرطب، وأحسّ برابط غامض بين هذه الأرض برائحتها المختلطة، وما يدور في عقله من تساؤلات متضاربة حول مصير حاتم وهالة.
سأل آدم بلطف: «بماذا أناديك؟»
فأجابه اللص بغلظته المعتادة: «حالة»
ابتسم آدم ابتسامة مرتبكة، وانزلق من لسانه سؤال دون أن يدرك: «واتس ولا فيس؟!»، فتدارك الموقف وغيّر سؤاله بجدية: «أقصد، ماذا تعني بحالة؟»
ردّ عليه بحزم: «اسمي حالة… حالة الحرامي.»
نظر آدم في الفراغ، ممسكًا لسانه عن التعليق بتهكم، وشفتيه عن الابتسام بسخرية، إلاّ أنه لم يستطع كبح فضوله، فقال بتردد: «أنت أغرب شخص التقيته… ما الذي أوصلك إلى هذه الحالة؟ أقصد حالتك وليس اسمك… تبدو متضاربًا كأنك تعيش صراعًا داخليًا، أو كأنك عدة أشخاص في واحد. ما السبب؟»
أجابه ببساطة، وكأن الإجابة حاضرة في ذهنه منذ زمن: «فتحت عيني على سقوط بغداد.»
استغرب آدم من رده، وأخذ يفكر في سؤال ألحّ على ذهنه: «ما علاقة سقوط بغداد بتكوين شخصيته المشوهة هذه؟»
همّ بطرح السؤال عليه، فحالت الأمطار دون ذلك، إذ بدأت تتساقط فجأة وبشكل غير متوقع، فنسي سؤاله وراح يحدق في السماء بدهشة، ثم سأل في تعجب: «نحن في عز الصيف! كيف تهطل الأمطار والشمس ساطعة؟»
لم يُجب حالة، ولم يطل استغراب آدم؛ فقد مرّ بموقف مشابه في طفولته، حين كان يقف على الرصيف ينتظر مرور الشيخ بدراجته ليلحق به إلى الكُتّاب… ابتسم وهو يتذكر الطريقة التي كان يحسب بها ميعاد وصول الشيخ: إذ كان يدق عود حطب في الأرض، ويتابع ظلّه وهو يتقلص مع تقدم الشمس، فإذا وصل الظل إلى منتصف العود، عرف أن الشيخ قد اقترب، أما إذا تجاوز الظل منتصف العود دون أن يمر الشيخ، يستنتج أن اليوم إجازة ولن يأتي الشيخ. وفي ذلك اليوم، أمطرت السماء في عز الصيف، واختفت الشمس وراء الغيوم الخفيفة، فعجز عن تحديد الميعاد بدقة، وقرر عدم الذهاب إلى الكُتّاب، وقضى العصرية كلها في اللعب، ظنًا منه أن الشيخ لن يأتي، ولكنه جاء، ولم يعرف آدم ذلك إلا عندما عوقب في اليوم التالي.
بدأت السيارة تنزلق يمينًا ويسارًا، بغير تحكم من حالة، حتى استقرت في ترعة الكفاح، نصفها مغمور في الماء، وعجلاتها غارزة في الطين.
ظلّا يحاولان إخراج السيارة دون جدوى، فاستسلما وخرجا منها على أمل العودة لاحقًا، واكتفيا باستخراج الموتوسيكل، وتركا السيارة عالقة في الترعة، بين الماء وبين الطين.
ركبا الموتوسيكل، وحالة ينظر إلى آدم باشمئزاز قائلًا: «أنا غير مرتاح لك.»
ردّ آدم بدون تفكير: «ولا أنا!»
زعق حالة بنبرة عنيفة: «ماذا تقول؟»
تدارك آدم موضحًا: «أعني، ولا أنا مرتاح لنفسي.»
تجاوز حالة عن الموقف، وانطلقا حتى وصلا إلى العتل، فأوقف حالة الموتوسيكل في منتصف الملعب، حيث كان أصدقاء آدم لا يزالون يلعبون كرة القدم، وحين رأوا حالة ظنّوا أن آدم قد استأجر بلطجيًا ليقتصّ منهم على سخريتهم منه. إلا أن حالة وقف فيهم صارخًا: «كيف تتركون صاحبكم في هذا المأزق وحده؟»
ردّ أحدهم بدهشة: «أي مأزق؟»
أدرك حالة أن آدم لم يخبرهم بشيء، فالتفت نحوه مستغربًا وقال: «هل أنت غبي لهذه الدرجة؟»
ثم بدأ حالة يشرح لهم ما جرى، وكيف أن حاتم وهالة مفقودان، فشعر الأصدقاء بالذنب، وتدافعوا واحدًا تلو الآخر قائلين: «لو أخبرتنا لما لعبنا من الأساس!»
وفي لمح البصر، انطلقوا جميعًا في سباق محموم للبحث عن حاتم وهالة في العتل والأراضي الزراعية المحيطة، والليل يوشك أن يعمّ المكان.