الإنسان الحديث وكابوس التوثيق

الإنسان الحديث وكابوس التوثيق

كان الناس قديمًا يمشون على الأرض وهم يتركون وراءهم أثرًا منسيًا، بالكاد يُذكر.

كانت الحياة تمضي، والذكريات تتبخر مع الزمن كما يتبخر الندى عن أوراق الصباح.

الأم تحكي عن ابنها وهو صغير، فيبتسم وهو لا يملك إلا أن يُصدّق.

الجدّ يروي قصة شبابه، فتبدو كأنها أسطورة من زمن لا يُقاس.

لكن في زماننا — هذا الزمن المُحاط بالعدسات — لم تعد الذكرى تُروى، بل تُعرَض.

لم تعد تُستدعى، بل تُشغّل.

نحن أبناء عصرٍ تحوّلت فيه الذاكرة إلى ملف رقمي، محفوظ، قابل للمراجعة، بل وللمونتاج.

صرنا نرى أنفسنا صغارًا، نسمع ضحكاتنا من عشرين عامًا، نشاهد ملامحنا تتغير على شاشة باردة لا تعرف الحنين.

ولأول مرة في التاريخ، لم يعد الماضي “ما مضى”، بل ما هو حاضر دائمًا في جيبنا.

صورة، تسجيل، تغريدة، فيديو، رسالة.

الماضي يُحاصرنا… لا كذكرى، بل كدليل.

لا كحكاية نُطعّمها بالخيال، بل كحقيقة جامدة، لا مجال للهرب منها.

لقد أصبح العالم كله “جيل التوثيق”.

كل من يعيش الآن، على ظهر هذه البسيطة، تحت عين الكاميرا، وسط طوفان الذاكرة المصوَّرة.

صورة اليوم، هي ذاكرة الغد. وذاكرة الغد، صارت ملفًا قابلًا للمراجعة… أو للمحو.

لكن هل ما نملكه اليوم هو “ذاكرة”؟ أم مجرد “أرشيف”؟

هل نستطيع أن نعيش ماضينا حين نشاهده؟

أم أن الصورة تُبعدنا عن ذاتنا، بحجّة توثيقها؟

حين تُمسك بتسجيل لصوت والدك الراحل، هل تقترب منه؟ أم تحزن لأنك لا تقدر على سماعه إلا من خلال جهاز؟

حين ترى وجهك الطفولي على شاشة الهاتف، هل تفرح أم تشعر بأن الزمن سرقك بهدوء لم تكن تلحظه وأنت تعيشه؟

ذاكرتنا الحديثة جميلة، نعم. لكنها مُرعبة.

لأنها لا تنسى.

لأنها لا تسامح.

لأنها تسجّل كل شيء، حتى اللحظات التي لم نكن نُريد لها أن تبقى.

قديماً، كان النسيان نعمة، أما اليوم، فصار رفاهية مفقودة.

لم نعد نعيش الزمن… بل نُؤرشفه.

لم نعد نحكي عن الماضي… بل نُعيد تشغيله.

صرنا نشبه الآلات، تُخزّن ولا تنسى، تُوثّق ولا تتأمل.

ومع كل صورة نُحمّلها، ومع كل لحظة نُسجّلها، نخطو خطوة إضافية نحو تفريغ الذاكرة من المعنى، وملئها بالملفّات.

لقد تغيّرنا.

صرنا كائنات تعيش تحت سلطة أرشيف لا يرحم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top