إذا أردنا أن نبحث عن إجابة منطقية لسؤال: «من خلق الخالق؟»، فعلينا أن نبدأ بسؤالٍ آخر وهو: «كيف بدأ الخلق؟»
هل تتفق معي أن للخلق بداية؟
بما أنني تحولت عن سؤالك: «من خلق الخالق؟» إلى سؤال: كيف بدأ الخلق؟ فإن هذا التحول يقتضي الاتفاق على مشترك عقلي ومنطقي بيننا لا ينكره أحدنا.
فلا يكون تحولي هذا منطقيًا؛ إلا إذا كنت أنا وأنت متفقين على أن الخلق له بداية… فهل تتفق معي أن الخلق له بداية؟
◙ بالنسبة للمؤمن بالخالق فإنه لن يعارضني.
◙ أما إن كنت ملحدًا وقرأت هذه الكلمات؛ فيا ترى هل ترفض أم تقر بأن للخلق بداية؟
وذلك بغض النظر عن التسميات، سواء اعتبرته خلقًا أو اعتبرته شيئًا آخر نشأ بأي طريقة؛ فلا مشاحة في الاصطلاح، والعبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني.
والآن؛ فأنت بين خيارين:
خياران منطقيان لا ثالث لهما:
◄ إما أن تقول: إن الخلق بلا بداية؛
وهنا يسقط سؤالك: من خلق الخالق؟ لأنك أنكرت البداية التي هي الخلق أو النشأة، وبالتالي فإن الخالق لم يُخلَق شأنه شأن بقية الكائنات التي لم تُخْلَق كذلك.
إذًا فهذا الاختيار مغلق ولا يمكنك أن تتمسك به وتستمر في التساؤل بجدية من خلق الخالق، لأنك أقررت أنه لا يوجد أي مخلوق على الإطلاق، وهذا يجعل الخالق غير مخلوق مثل الجميع.
◄ أما الاختيار الثاني؛ فإنك ستقول:
«إذا كان المقصود بكلمة «الخلق» الكون المادي بزمنه ومكانه ومحتواه، فالعلم الحديث (من خلال نظرية الانفجار العظيم Big Bang) يشير إلى أن للكون بداية زمنية، تُقدّر بـحوالي 13.8 مليار سنة.
وحتى إن لم أسمّه «خلقًا» (لأني أرفض أن أنسبه إلى خالق)، فسأسلّم بأنه نشأ في لحظة زمنية محددة. إذن: له بداية.
إذن، في الاصطلاح: أنت تقول «خُلِقَ».
وأنا أقول «نشأ» أو «انبثق» أو «حدث».
لكنني أتفق معك أن هناك لحظة ما بدأ عندها كل شيء.
ولذلك، أتفق معك على أن للكون بداية، سواء سُمّيت خلقًا أو نشوءً.
طالما أنك قد اتفقت معي أن للخلق بداية، فلابد أن ننتقل للسؤال التالي.
ما هو الخلق؟
لقد اتفقنا على أن للخلق بداية؛ ولكن ماذا نقصد بكلمة الخلق هذه؟ فالتسلسل المنطقي يجعلنا نبحث في معنى كلمة الخلق بعمق.
والخلق له معنيان:
♣ إما أنه المخلوقات أي الكائنات المخلوقة
♣ وإما أنه المفهوم الذي يُدْرَك به معنى فعل الخلق نفسه، أي فكرة الخلق نفسها كفكرة مجردة.
والخلق الذي سيكون مثار نقاشنا هو مفهوم الخلق نفسه؛ الذي نعني به فكرة الخلق المجردة قبل تفعيلها وإظهارها على هيئة مخلوقات.
وهذا ينقلنا للسؤال التالي: هل مفهوم الخلق له وجود حقيقي؟
القول بأن مفهوم الخلق غير موجود فمستحيل؛ لأننا نستخدم هذا المفهوم كل لحظة عندما نسأل عمّن صنع هذه السيارة أو تلك الشاشة، وهكذا… وتساؤلك حول من خلق الخالق مثال حي لوجود هذا المفهوم وجودًا حقيقيًا.
فلو سألت هذا السؤال ثم قلتَ إنه قد وُجِد خلق بدون وجود مفهوم الخلق، فهذا غير منطقي ويؤدي إلى نفي فكرة الخلق نفسها التي يدور حولها نقاشنا، والتي اتفقنا مسبقًا على وجودها أيًا كان اسمها، وهو ما يجعل من سؤالك عمّن خلق الخالق لغوًا وعبثًا ولا جدوى منه.
وبالتالي، فإننا نتفق على أن مفهوم الخلق موجود.
متى وُجِدَ مفهوم الخلق؟
بما أن الخلق له بداية كما اتفقنا آنفًا، وبما أن الخلق كمفهوم له وجود حقيقي؛ فمتى بدأ مفهوم الخلق في الظهور؟
لا خلاف بيننا على أن مفهوم الخلق قد وُجِدَ قبل أن يُخلق أول مخلوق، ذلك أنه قبل أن يخلق أول مخلوق لا بد أن يكون هناك مفهوم اسمه الخلق.
بمعنى أوضح: قبل أن يُخلق أول مخلوق لا بد أن توجد فكرة الخلق نفسها أولاً لتتحول بعد ذلك إلى الحدوث في هيئة فعل الخلق.
إذن؛ مفهوم الخلق موجود قبل أول مخلوق.
وهذا يؤدي لسؤال آخر:
هل يمكن خلق أي مخلوق قبل وجود مفهوم الخلق؟
بما أننا قد توصلنا إلى أن مفهوم الخلق موجود قبل أول مخلوق، فإن هذا يعني أنه قبل خلق المخلوق الأول لم يكن هناك شيئًا اسمه الخلق، وبالتالي فلا يمكنك أن تسأل من خلق كذا؟
لأن مفهوم الخلق نفسه لم يكن قد وُجِد بعد، ولذلك كل من هو موجود قبل نشوء فكرة الخلق لا يصح أن يُسأل مَن خلقك؟ أو بمعنى آخر لم يكن هذا السؤال نفسه قد وُجِد أصلًا!
ولذلك فلا يمكن أن نسأل من خلق الخالق.
كيف نشأ مفهوم الخلق؟
ونحن هنا بصدد ثلاث حالات:
إما أن مفهوم الخلق هو الخالق نفسه،
وإما أنه هو المخلوق الأول للخالق،
وإما أن مفهوم الخلق صفة من صفات الخالق.
● وأما القول بأن مفهوم الخلق هو الخالق:
فهذا يعني أن سؤالك قد أجيب عليه بإحكام لأنك أقررتَ بوجود الخالق، سواء أسميته فكرةً أو مفهومًا أو خالقًا، وأقررتَ كذلك بأنه لا يسبقه خالق آخر، إذ قبله لم يكن هناك وجود لمفهوم الخلق، لأننا ملزمون بأن مفهوم الخلق يسبق كل خلق، ولكن المفهوم لا يخلق نفسه، لذلك فهذا الفرض رغم أنه ينسف تساؤلك: من خلق الخالق؟ إلا أنه غير دقيق.
● أما إذا قلت بأن مفهوم الخلق هو المخلوق الأول للخالق:
فإنك بذلك تقر أنه قبل خلق مفهوم الخلق لا يوجد أي مخلوق آخر، وبالتالي تكون قد استثنيت بنفسك الخالق الذي خلق مفهوم الخلق من أن يكون مخلوقًا، وتكون قد أجبت على تساؤلك: من خلق الخالق؟ بنفسك.
ورغم ذلك فهو فرض غير دقيق كذلك؛ لأن اعتبار مفهوم الخلق مخلوقًا يؤدي لجزء فارغ في سلسلة الخلق بين نشوء فكرة الخلق وبين تنفيذها.
● أما إذا قلنا بأن مفهوم الخلق صفة من صفات الخالق ملازمة لذاته:
فإنه كخالق يستطيع أن يخلق مخلوقات، ولكن لا يمكن أن يوجد مخلوق أو خالق يسبقه ليخلقه؛ لأن فكرة الخلق ومفهومه لم يكن لهما وجود قبل أول مخلوق قام هو بخلقه.
وبالتالي بداية الخلق تعني أنه لا بداية للخالق، ولا خالق للخالق الأول، ونكون قد وصلنا للبداية التي ليس لها بداية، والقبل الذي ليس قبله قبل.
وقد تسأل: وما الذي يمنع أن يكون هناك خالق قبل الخالق يتصف بصفات الخلق أيضًا وهو الذي خلق الخالق؟
المانع هو مفهوم الخلق نفسه؛ لأن هذا الافتراض يهدم ما اتفقنا عليه من وجود بداية للخلق، وبالتالي بداية لمفهوم الخلق، وهذا من شأنه أن يُرحِّل بداية الخلق للوراء، ويجعل من نسميه الخالق ليس هو الخالق الأول الحقيقي، لأنه مخلوق هو الآخر وبالتالي كان مفهوم الخلق موجودًا.
ولذلك فإن محور فكرتنا هو مفهوم الخلق وفكرة الخلق وبداية الخلق وليس الخالق ذاته؛ لأنه في النهاية لا خلق قبل وجود مفهوم الخلق،
ومتى وُجِد مفهوم الخلق فثمّ الخالق الأول الذي لم يخلقه أحد أيا كان اسمه.
ولكنك كملحد مادي تجريبي، ستعترض قائلاً:
إنني لا أرى الأفكار والمفاهيم ككيانات قائمة بذاتها، لأن الفكرة أو المفهوم لا يمكن أن توجد قبل وجود عقلٍ يفكّر بها.
وهنا يمكنني أن أسقط اعتراضك بعبارة موجزة:
لا أختلف معك فيما تقول؛ ولكن الخالق الذي خلق أول مخلوق، أتريد أن تقول إنه لم يكن قادرًا على فهم ما يقوم بفعله؟
فإما أنه خلق دون أن يكون هو نفسه على وعي بمفهوم فعل الخلق الذي يفعله، أو أنه كان يعي ما يفعل.
فإذا كان يعي ما يفعل، فقد سقط اعتراضك، وإذا كان لا يعي ما يفعله فقد أصبح سؤالك من خلق الخالق لغوًا لأنه لا يوجد خالق لا يعي، وإن وصفته بعدم الوعي فأنت تنكر وجوده من الأساس، وهنا يكون من الأفضل لك أن تناقش في فكرة أخرى من قبيل: هل يوجد خالق أصلًا؟
وهكذا؛ فإنه إن كان يعي فقد احتوى مفهوم الخلق في ذاته؛ أي أن المفهوم كان صفة من صفاته وليس شيئًا خارجه.
وإن لم يكن يعي، فقد سقط تعريفه كخالق؛ إذًا لا يصح السؤال عنه كخالق أصلًا.
أما أن تسأل من خلق الخالق وتقول إنه خالق غير واعٍ، فهذا يجعل سؤالك متناقضًا، لأن القول بخالق غير واعٍ كأنك تقول إنه عدم.
ولكنه لم يكن عدمًا لأنه خَلقَ كونًا نراه بالفعل، والعدم لا يَخْلُق شيئًا، وهذا يسقط سؤالك من أساسه.
وربما تعترض قائلًا: لكنني أراك تفترض منذ البداية أن الخلق كفعل أو كمفهوم له وجود مستقل خارج العقل واللغة، وهذا أصل المشكلة.
فإنني كمُلحد، يمكنني أن أقول: إن الخلق ليس شيئًا يُوجَد، بل مصطلح يستخدمه الإنسان عندما يُسقِط وعيه القصدي على الظواهر.
وهذا الاعتراض عبثي: لأننا سلّمنا منذ البداية أن الخلق له بداية، وطالما سلّمنا بذلك سواء تكلمنا في المفهوم أو غيره فالنتيجة واحدة…
فلنفترض أنه لم يكن هناك ما يسمى مفهوم الخلق، ولكن كانت بديلًا عنه آلية الخلق أو طريقة الخلق أو أدوات الخلق، فالأمر هو كما هو والنتيجة هي كما هي أيًا كانت المصطلحات.
فإنني قد وضعتك أمام التزام منطقي:
هل الخلق له بداية؟
أجبت: نعم.
إذًا كان هناك من بدأه.
ثم: وهل هذا الذي بدأه كان واعيًا بفعله؟
إن كان واعيًا فـ«الخلق» كفعل، وكمفهوم، وكمقصد، سابق على أول مخلوق.
أي أن «مفهوم الخلق» لم يكن فكرة بشرية فقط، بل صفة كامنة في ذات القادر على الخلق.
وهنا لا يهم اسمها: مفهوم، صفة، آلية، تصميم، قانون، طاقة… ما دامت هي جزء من ذات الخالق أو ملازمة لفعله.
وقد تعترض قائلًا: هل يمكن الحديث عن [قبل] إذا لم يكن هناك زمن؟
إذا كان الزمن نفسه قد بدأ مع الكون (كما تقول نظرية الانفجار العظيم والنسبية العامة)، فلا يصحّ الحديث عن [قبل الخلق]، لأن مصطلح [قبل] هو مصطلح زمني، وما دام لا وجود للزمن، فلا وجود لـ [قبل]، ولا مكان لطرح سؤال: هل وُجِدت فكرة الخلق قبل أول مخلوق؟
الرد المنطقي: الزمن نفسه مخلوق، وتبعيّ لفكرة الخلق
اعتراضك هذا يقوم على أن الزمن [بدأ]، أي أنه حدث، وبالتالي فهو مخلوق أو ناشئ، أي لم يكن موجودًا ثم وُجِد.
وهذا يعني أن [الزمن نفسه] نتيجة لفعلٍ سابق عليه، ومن ثم: فإننا عندما نقول إن فكرة الخلق قد وُجدت قبل الزمن، فنحن لا نعني [زمنيًّا] أنها سبقت الزمن، بل نعني أنها ليست مشروطة بالزمن أصلًا.
بمعنى آخر: الخلق كإمكانية أو كقوة أو كخاصية سابقة منطقًا على الزمن، لا من حيث التسلسل الزمني، بل من حيث الترتيب المفهومي.
ويمكننا أن نقول إنه عندما كانت فكرة الخلق موجودة لم يكن الزمن موجودًا.
وهذا يقودنا إلى هذا الاستنتاج الحاسم: إن لم يكن هناك زمن، فلا [قبل] ولا [بعد]، بل [وجود محض] لكائن/صفة/فعل ليس محكومًا بأيّ إطار زماني.
وإذا وُجد [خالق] أو [فكرة الخلق] في ذلك المستوى، فهي لا يمكن أن تكون قد جاءت نتيجة لأي عملية زمنية.
وبالتالي، فهي أصل الزمن لا نتيجته.
النتيجة المنطقية من ذلك: لا يصحّ استخدام [بداية الزمن] كاعتراض ضد وجود [فكرة الخلق].
بل العكس: بداية الزمن تؤكّد أن شيئًا غير زمني (سواء أكان «خالقًا» أو «فعل خلق») هو الذي أنتج الزمن.
وهذا الشيء «غير الزمني» هو أزلي بالضرورة من حيث المفهوم (لا يُسأل: متى وُجد؟)، ولا يُسأل عنه بـ: من خلقه؟ لأنه ببساطة سابقٌ على كلّ ما يمكن أن يُخلق، زمنيًّا ومفهوميًّا.
وقد تعترض من منطلق فيزيائيّ محدّث: (اللا زمن في الميكانيكا الكميّة/نظرية الأوتار)… أحيانًا تُطرَح نظريات فيزيائية تقتضي عدم وجود بدايةٍ مفهومةٍ للكون، أو افتراض أكوان متعدّدة (Multiverse) لا نقطة بدء واضحة لها.
الرد على هذا الاعتراض: هل تعدد الأكوان يستلزم تعدد الخالقين؟
في حالة تعدد الخالقين، لا بد من تراتبية أو صراع قوى بينهم، لأن:
الخالق هو فاعلٌ مريدٌ ذو قدرة.
والفاعل المريد لا يتساوى في القدرة مع غيره من غير صراع أو تفوّق.
فإن كان أحدهم أقوى، فهو وحده الخالق الأعلى.
والنتيجة المنطقية: حتى في سيناريو الأكوان المتعددة، لا مفر من خالق أول، أو مفهوم أول للخلق، تتفرع عنه كل النماذج.
هل الأكوان المتعددة تُلغِي «المفهوم»؟
كل كون من هذه الأكوان يُسمى «كونًا» لأنه يحمل صفات محددة: طاقة، مادة، قوانين.
مجرد تسميته «كونًا» هو اعتراف بأن له مفهومًا عامًا نتفق عليه.
ومتى وُجِد المفهوم، وجب أن يكون له أصل: من الذي صاغه؟ من الذي وعاه؟
إن لم يكن أحد قد وعاه أو صاغه، فهو معدوم ذهنيًّا، ولا يمكن الحديث عنه أصلًا.
النتيجة: تعدد الأكوان لا يتجاوز مبدأ «المفهوم الأول»، بل يعيده إلى نقطة أعمق.
هل تعدد الخالقين ممكن منطقيًّا؟
لا؛ لأنه لا يمكن «اشتراك خالقين» في فعل غير محدود بلا تضاد.
النتيجة: حتى فرضية وجود «مجموعة خالقين» تنهار منطقيًّا أمام سؤال: «من منهم أنشأ مفهوم الخلق نفسه؟»
فلو سلّمنا جدلًا أن هناك مليارات الأكوان المتعددة، يظل هناك سؤال مركزي:
«من خلق مفهوم التكوين ذاته؟ من هندس قانون الاحتمالات الذي سمح لها بالظهور؟»
هذه الأكوان –مهما اختلفت– تخضع لقوانين رياضية أو احتمالية يمكن وصفها أو التفكير فيها،
إذًا هي داخلة تحت العقل البشري، وخاضعة لمفهوم الخلق والتكوين،
وهو ما يجعل وجودها مرتهن بالسلسلة المنطقية التي نتكلم عنها، من أن بداية الكون أو الخلق يسبقها وجود مفهوم التكوين أو الخلق، وبالتالي وجود الخالق الذي لا يسبقه خالق.
💬 ماذا عنك؟
هل لديك اعتراض جديد لم نناقشه بعد؟
اكتب رأيك، وشاركني تأملك…
كما لا تنس أن تلقي نظرة على التأمل الأول.