
قصة: على حافة الموت
يَبْحَثُ عَنْهُ في كُلِّ أَرْجاءِ الدُّنْيا ولا أَثَرَ لَهُ، يَتَسَاءَلُ في حَيْرَةٍ شَدِيدةٍ:
«أَيْنَ فَرَرْتَ مِنِّي؟ لا يُمْكِنُ لِإِنْسانٍ أَنْ يَجِدَ مَهْرَبًا مِنِّي، إِنَّنِي الْمَوْتُ وَلِي ساعَةٌ دَقيقةٌ وَلَحْظَةٌ مُحَدَّدَةٌ، إِذَا حَلَلْتُ فِيهَا لا أَرْتَحِلُ حَتَّى آخُذَكَ مَعِي، فَأَيْنَ أَنْتَ؟ أَخْبِرْنِي؟»
يُدِيرُ الْمَوْتُ عَيْنَيْهِ في الْمَكانِ حَتَّى تَقَعَا عَلَيْهِ، فيَنْظُرَ إِلَيْهِ ويَقُولُ في ظَفَرٍ وفَرَحٍ:
«ها أَنْتَ لَقَدْ ظَفِرْتُ بِكَ.»
يَقْتَرِبُ الْمَوْتُ مِنْهُ لَحْظَةً بَعْدَ لَحْظَةٍ، يَنْظُرُ إِلَيْهِ ويَبْدو عَلَيْهِ تَعَجُّبٌ شَدِيدٌ، ولِسانُ حالِهِ يَسْأَلُ:
«ما هٰذا؟ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَكَ مَعِي، لا يُمْكِنُ أَنْ تَمُوتَ.»
تَطْغى عَلَى وَجْهِهِ عَلاماتُ الِاسْتِغْرابِ.
«ولِماذا؟»
يُجِيبُهُ الْمَوْتُ:
«لِأَنَّكَ مَيِّتٌ.»
«كَيْفَ هٰذا؟ إِنَّنِي عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، ما زِلْتُ أَمْشِي، ما زِلْتُ أَتَكَلَّمُ، صَبْرًا أَيُّهَا الْمَوْتُ، سَأُحْضِرُ لَكَ أَحَدَ الْبَشَرِ لِيُخْبِرَكَ أَنَّنِي حَيٌّ.»
«يا عَزِيزِي لَسْتَ بِحَاجَةٍ إِلَى هٰذا، إِنَّنِي أَعْرِفُكَ أَكْثَرَ مِنْكَ ومِنْ غَيْرِكَ، إِنَّنِي الْمَوْتُ وأنا أَعْرَفُ بِالْمَوْتَى والأَحْيَاءِ، وأَنْتَ اسْتَوْفَيْتَ شُرُوطَ الْمَوْتِ كامِلَةً.»
فُغِرَتْ شَفَتَاهُ عَلَى مِصْرَاعَيْهِما دَهْشَةً:
«ماذا؟ شُرُوطُ الْمَوْتِ؟ ماذا تَعْنِي؟»
«أَعْنِي أَنَّ لِي شُرُوطًا لا بُدَّ أَنْ تَسْتَوْفِيَهَا لِتَكُونَ مَيِّتًا، وهٰذه الشُّروطُ مُتَوَفِّرَةٌ فِيكَ بكاملِها.»
ثم أَضافَ الْمَوْتُ بصَوْتٍ مُمْتَلِئٍ بالحِكْمَةِ:
الشَّرْطُ الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ يَوْمُكَ كَأَمْسِكَ وصَبَاحُكَ كَمَسَائِكَ، جُمُودٌ ورُكُودٌ. هَلْ هٰذا الشَّرْطُ مُتَوَفِّرٌ فِيكَ؟
نَظَرَ لِأَعْلَى مُفَكِّرًا ثُمَّ أَوْمَأَ برَأْسِهِ مُوحِيًا بتَوَفُّرِهِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: «لا تُضِيفُ شَيْئًا، وإِنْ أُضِيفَ إِلَيْكَ». هَلْ يَتَوَافَرُ فِيكَ هٰذا الشَّرْطُ أَيْضًا؟
«لا أَفْهَمُ ما تَقُولُ أَيُّهَا الْمَوْتُ، وَضِّحْ لِي مَقْصِدَكَ.»
«سَأُوَضِّحُ لَكَ الأَمْرَ تَمَامًا: مَنْ يَمُوتُ ويُفَارِقُ الْحَيَاةَ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يُضِيفَ عَمَلًا جَدِيدًا، لا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا حَسَنًا يُثَابُ عَلَيْهِ ولا سَيِّئًا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، ولكِنَّهُ يَتَلَقَّى مِنَ الآخَرِينَ دُعَاءَهُم واستِغْفَارَهُم، فَهٰذا يُضافُ إِلَيْهِ. اُنْظُرْ إِلَى حَالِكَ الآنَ؛ هَلْ تُضِيفُ شَيْئًا؟ بالطَّبْعِ لا. إِذَنْ فَأَنْتَ مَيِّتٌ ولَوْ أَضَافَ لَكَ الآخَرُونَ.»
صَدَّقَ عَلَى كَلامِ الْمَوْتِ فاستَمَرَّ يقولُ:
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وهو «لو عَادَتِ الأَيَّامُ». يَجِبُ أَنْ تُرَدِّدَ دائمًا، في كلِّ مُناسَبَةٍ وبِلا مُناسَبَةٍ: لو عَادَتِ الأَيَّامُ الماضِيَةُ لَفَعَلْتُ كَذا وكَذا، وتَقولَ ذٰلِكَ وأَنْتَ مُتَنَاسٍ أَنَّ الأَيَّامَ تَعُودُ إِلَيْكَ كُلَّ يَوْمٍ، وتَبْقَى لا تَفْعَلُ شَيْئًا.
أَوْمَأَ برأسِهِ مُتَفَهِّمًا فَوَاصَلَ الْمَوْتُ:
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: «الآخَرونَ هُمُ السَّبَبُ»، وأظنُّ أَنَّ هٰذا الشَّرْطَ واضحٌ لا يَحتاجُ إلى شَرْحٍ؛ فما عَلَيْكَ إلا أَنْ تَفْعَلَ الأَشْياءَ الخاطِئَةَ وتُسارِعَ بِإلْقاءِ تُهْمَةِ فَشَلِكَ عَلَى الآخَرِينَ.
صَمَتَ الْمَوْتُ قَليلًا قَبْلَ أَنْ يُضيفَ:
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: «سِرْ على غَيْرِ هُدىً وإِلى لا مَكانَ»، عَليكَ أَنْ تَسِيرَ بِدونِ وِجْهَةٍ مُحَدَّدَةٍ، وَأَنْ تَتَّبِعَ سَرابًا، وَأَنْ تَمْضِيَ في الطَّريقِ الخاطِئِ لِتَسْقُطَ مَيِّتًا في النِّهايَةِ.
أَنْهَى الْمَوْتُ شُروطَهُ الخَمْسَةَ واسْتَرْخَى في مَكانِهِ وهُوَ يُخاطِبُهُ بِصَوْتٍ رَتِيبٍ: «إِنَّكَ مُقِرٌّ بِتَوَفُّرِ شُروطِ الْمَوْتِ فيكَ، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟»
وافَقَهُ الرَّأْيَ بِإِيماءةٍ مِنْ رَأْسِهِ.
وبَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ السُّكُونِ والسُّكوتِ ابْتَسَمَ ابْتِسامَةً مَلْؤُها الثِّقَةُ والذَّكاءُ، وتَحَدَّثَ بِنَبْرَةٍ ظافِرَةٍ:
«أَنْتَ لَسْتَ الْمَوْتَ.»
«ماذا؟ أَنا لَسْتُ الْمَوْتَ؟ إِنَّكَ تَمْزَحُ بِلا شَكٍّ.»
«لا، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِكُلِّ جِدِّيَّةٍ… إِنَّكَ لَسْتَ الْمَوْتَ. اُنْظُرْ إِلى نَفْسِكَ؛ أَلا تَرى أَنَّكَ تُفاوِضُنِي وَالْمَوْتُ لا يُفاوِضُ؟ أَلا تَرى أَنَّكَ تُكَلِّمُنِي وَالْمَوْتُ يَعْمَلُ في صَمْتٍ؟ أَلا تَرى أَنَّكَ أَخَّرْتَنِي عَنْ وَقْتِي وَالْمَوْتُ لا يُؤَخِّرُ وَلا يُقَدِّمُ؟»
أَصابَتْ كَلِماتُهُ الْمَوْتَ بِصَدْمَةٍ قاتِلَةٍ؛ فَدارَ حَوْلَ نَفْسِهِ دَوْرَتَيْنِ، وسَقَطَ أَرْضًا، ثُمَّ نَهَضَ مُتَحَوِّلًا لِهَيْئَةٍ أُخْرَى، وهو يَتَساءَلُ في ذُهُولٍ شَديدٍ:
«مَنْ أَنا؟»
اسْتَرْخَى وبَدا كَأَنَّهُ مُحَلِّلٌ اسْتِراتيجيٌّ وهُوَ يُجيبُهُ:
«أَنْتَ قَدَرِي. أَتَيْتَنِي في صُورَةِ الْمَوْتِ عِنْدَما احْتَجْتُكَ، أَبْلَغْتَنِي الرِّسَالَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْتُ. إِنَّكَ دائِمًا تَسْبِقُ الْمَوْتَ بخُطْوَةٍ؛ تَأْتِي قَبْلَهُ لِتُحَذِّرَنِي. فَأَنْتَ تَصْنَعُنِي وَأَنا مِنْ صَنْعِكَ، أَنْتَ الْمَوْتُ قَبْلَ الْمَوْتِ؛ أَنْتَ حادِثَةٌ أَصابَتْنِي، كارِثَةٌ حَلَّتْ بِي فَجَذَبْتَنِي مِنْ يَدِي وعَرَّفْتَنِي على حَقيقَةِ حَياتي فَعِشْتُ بَعْدَها سَعيدًا حَتَّى جاءَ الْمَوْتُ، وها قَدْ جِئْتَ إِلَيَّ لِتُحَذِّرَنِي مِنَ الْمَوْتِ فَارْتَدَيْتَ ثِيابَ الْمَوْتِ. هٰكَذا أَنْتَ دائِمًا: لا تُنادِينِي بِأَعْلى صَوْتِكَ «احْذَرْ»، وَلٰكِنَّكَ تُحَذِّرُنِي بِالفِعْلِ.»
«والآنَ، هَلْ لَكَ مِنْ كَلِمَةٍ تُريدُ أَنْ تَقُولَها لي؟»
سَكَتَ الْقَدَرُ بُرْهَةً، ومَسَحَ وَجْهَهُ بِكَفَّيْهِ، وقَالَ مُبْتَسِمًا:
«حَقيقَةً لَقَدْ حَسِبْتُ أَنَّنِي الْمَوْتُ فِعلًا؛ فَمِنْ شِدَّةِ تَقَمُّصِي لِلأَدْوارِ أَظُنُّ أَنَّنِي هٰذا الشَّيءَ أَوْ ذاكَ. وَلٰكِنَّنِي لا أَفْعَلُ ذٰلِكَ إِلَّا رَغْبَةً في تَحْذِيرِكَ، وأَرْجُو أَنْ تَنْتَبِهَ لي جَيِّدًا مِنَ الآنَ فَصاعِدًا. اِقْرَأْ كُلَّ رَسائِلي ودَوِّنْها في مُذَكَّراتِكَ الخَاصَّةِ، سَمِّها إِنْ شِئْتَ «رَسائِلَ الْقَدَرِ»، واقْرَأْها كُلَّ حينٍ حَتَّى لا تَنْسَى. وأَخِيرًا أُحِبُّ أَنْ أَقُولَ لَكَ: لا تَمُتْ وأَنْتَ على قَيْدِ الحَياةِ؛ فَأَحيانًا يَأْتي الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ الحَياةُ.»
أَتَمَّ الْقَدَرُ جُمْلَتَهُ وانْصَرَفَ، مُتْبُوعًا بِعِباراتِ الشُّكْرِ الجَزيلِ الَّتي ظَلَّ يُرَدِّدُها حَتَّى أَحَسَّ أَنْ عَيْنَيْهِ تُؤْلِمانِهِ، وشَعَرَ بِرَغْبَةٍ شَديدَةٍ في فَتْحِهِما. بَدَأَ يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ والتَّساؤُلاتُ تَنْهَمِرُ مِنْ عَقْلِهِ:
«ما هٰذا؟ لِماذا عَيْنايَ مُغْلَقَتانِ؟ هَلْ ما زِلْتُ لَمْ أُولَدْ بَعْدُ؟ لا؛ إِنَّنِي على قَيْدِ الحَياةِ مُنْذُ زَمَنٍ بَعيدٍ. هَلْ أَنا نائِمٌ؟»
فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَارْتَطَمَ بِهِما ضَوْءٌ شَديدُ القَسْوَةِ، فَأَغْمَضَهُما سَريعًا مُحَدِّثًا نَفْسَهُ:
«أَيْنَ أَنا؟ وَلِماذا كُلُّ هٰؤُلاءِ حَوْلِي؟ ماذا جَرَى لي؟ وما هٰذِهِ الأَسْلاكُ والخَرَاطِيمُ الَّتي تُكَبِّلُ ذِراعَيَّ؟»
«ذاكِرَتي تُؤْلِمُنِي مِنْ شِدَّةِ عَصْرِي لَها، ولٰكِنْ لا بُدَّ أَنْ أَتَذَكَّرَ… آهْ، لَقَدْ تَذَكَّرْتُ: بِالأَمْسِ كُنْتُ أَقُودُ سَيَّارَتِي، وأَصابَنِي شُعورٌ طُفُولِيٌّ بَدِيعٌ، ذٰلِكَ الشُّعورُ المُصاحِبُ لِرُكوبِ المَراجيحِ؛ مَرَّةً إلى الأَعْلى ومَرَّةً إلى الأَسْفَلِ.»