[1]
يـسـتـيـقـظ وعلى وجهه تبدو أمارات الإرهاق الشديد، ويبدو وكأنه لم يكن نائماً أو على الأقل لم يكن مرتاحاً، يتحرّك بتثاقل، يعبر الصالة في طريقه إلى المطبخ ليعد فنجان قهوته المفضل والذي يفضل أن يعده بنفسه لنفسه دائماً، أو هكذا تعوّد فكأنّه أحد الطقوس اليومية التي لا مـفـرّ منها.
تقع عيناه على بعض صُوَرِه المعلقة على الحائط في الصالة فيقف ويتأملها قليلاً؛ أغلبها وهو يتسلم جوائز؛ ثم تقع عيناه على شهادة الدكتوراه التي حصل عليها حديثاً من كلية الآثار، ثم ذلك المقال الذي اقتصه من إحدى كبريات الجرائد العلمية العالمية والذي يتناول بالدراسة كتابه ذائع الصيت “رحلة في أعماق الهرم”، ثم مقال آخر في مجلة علمية عالمية كذلك يتحدث باستفاضة عن الاكتشافات الكثيرة في مجال الآثار التي توصل إليها على الرغم من حداثة سنه؛ فهو مازال في الثلاثين من عمره.
يحتسي فنجان قهوته المعتاد وهو يتصفح بعض المواقع الإلكترونية بحثاً عن شاليه يقضي فيه شهر العسل؛ صحيح أن هذا الشهر تأخر لما بعد الزواج بعامين! ولكن «هــالة» تقدر مشاغله وأبحاثه على كل حال؛ أحضرت كوباً من القهوة هي أيضاً وجلست إلى جواره، راحا يفاضلان بين شرم الشيخ ومطروح والغردقة وفي النهاية وقع بصر «حـاتم» على منظر سلب لبه وقلب كيانه شاليه على شكل هرم.
عقد العزم على أن يقوم بحجزه فاعترضت هالة؛ لأنها تريد مكاناً يضج بالبشر لتشعر فيه بالحياة، حاولت إثناءه عن هذا الشاليه ذي الشكل الغريب، والذي يبدو في الصور وحيداً ليس حوله أي شاليه آخر.
نزل على رغبتها وعاد يبحث في مواقع أخرى عن مكان آخر، وكلّما دخل موقعاً وجد هذا الشاليه في الصدارة دائماً؛ وهو أول ما يظهر له في كل موقع، تكرر الأمر مراتٍ عديدة فتوقف عن البحث والتفت إليها ورفع يديه للأعلى ومطّ شفتيه كأنه يبرئ نفسه، ويتهم الشاليه بأنه هو الذي يفرض نفسه عليه، ثم حاول أن يقنعها بأنها ستستمتع بالهدوء فيه، وبأنه سيخفف عنها صخب الزحام الذي تعيش فيه كل يوم وضغوط الأصوات العالية، وهي فرصة جيدة للاستجمام.
وافقت على مضض، وبعد أن وعدها بأنه سيعوضها عن هذا في الرحلة القادمة والتي ستكون إلى المكان الذي ستختاره هي دون تدخل منه.
الـثــلاثـــــاء 8/8/2023م
استقلاّ سيارتهما الخاصة في الطريق إلى مطروح، وفور انطلاقه بالسيارة قالت هالة:
«أعرف أن ما دفعك لحجز هذا الشاليه هو شكله الهرمي فهل لي أن أعرف لماذا أنت مولع بالأهرامات إلى هذا الحد؟».
تأمّل حاتم الطريق أمامه قليلاً وبدا كأنه لم يسمع سؤالها وعندما يئست من أن يجيبها قال:
«الأهرامات! سـرّ اهتمامي بها كتاب قديم وجدته عند صديق لي والتراب يغطيه كأنه قد صار جزءًا من الكتاب نفسه؛ كان أشبه بخواطر الكاتب حول بعض الموضوعات، وأكثر ما لفت انتباهي فيه فقرة وقعت في منتصف الكتاب تقريباً، كانت تتحدث عن الأهرامات أحفظها جيدا».
صمت برهة واقتنص نظرة إليها فوجد وجهها قد أشرق لمجرد الاستماع إلى حديثه؛ فابتسم وجعـل يـردد ما جاء في هذه الفقرة بصوتٍ رتيب ثابت كأنه يخرج من مذياع قديم:
«الأهرامات باقية منذ آلاف السنين؛ لماذا هي باقية؟ هل هي علامة على شيء؟ هل الذي حفظها إلى اليوم برغم الدهور أراد أن يبلغنا منها رسالة؟ هل أراد أن يقول: أيها الإنسان! أنا الخالق العظيم تركت لك هذه الأهرامات دليلاً على أنه في غابر الزمان كان هناك مــــن شيّـد هذا البناء؛ لم تره عينك، لم تلمسه يدك، لم تسمع صوته، ولا أبصرت هيئته؛ ولكنك متأكد أنه كان في هذا المكان يوماً ما.
أيها الإنسان! أترى باني الأهرامات الآن؟ هل كُتب عليك أيها الإنسان أن ترى الآثار ولا ترى بانيها؟
أيها الإنسان! لقد علمت أن باني الأهرامات موجود من كتابات نُقشت على الجدران، ومن وجود هذه الآثار ذاتها؛ وكذلك أنا! كذلك أنا الخالق العظيم موجود؛ من آثار أفعالي ومن كتبي تعرفني».
كانت هالة تستمع لكلّ كلمة بقلبها وعقلها في الوقت نفسه، ثم علّقت بقولها:
«لقد ربط الكاتب الأهرامات بالخالق».
«وهذا هو ما جعلني أهتمّ بالحكمة من بقاء الأهرامات آلاف السنين أكثر من اهتمامي بالسبب الذي كان في ذهن بانيها».
قطع كلامهما صوت فرملة شديدة، وكأنّ إطار السيارة يصرخ متألماً من احتكاكه الشديد بالأرض نتيجة التوقف المفاجئ للسيارة التي أمامهم؛ والتي نجح حاتم في تفادي الاصطدام بها في اللحظة الأخيرة والوقوف على جانب الطريق بعد أن تجاوزها بمسافة بسيطة.
نزل ليطمئنّ على من فيها، اقترب منهم ورائحـة تشبه الشياط تملأ المكان وعلامات الإطار المتآكل قد خلفت على الأسفلت وراء السيارة خطين متوازيين؛ وجد كل من في السيارة على ما يرام ولم يُصب منهم أحد بسوء، سألهم عما جرى فأخبره السائق بأنه تـــوهّـــم أن شخصا يمر أمامه فتوقف فجأة، ولكنه لم يجد أحدا؛ هــدّأ حاتم من روعه وطمأنه، فأدار السائق محرك سيارته ووقف حاتم ملوحاً بيده يودعه ويقول له:
«لا تنسى أن تفحص دورة الفرامل».
شكرته عينا السائق وابتسامته على اهتمامه بهم، وانطلق حاتم عائداً إلى هالة مبتسماً وقال وهو يهم بالجلوس على المقعد إلى جوارها:
«حتى هذه الحادثة البسيطة تدل على الخالق يا هالة!».
ظهر التعجب على وجهها وهي تسأله:
«وكيف ذلك؟».
أجابها حاتم وهو يدير محرّك السيارة وينطلق بها:
«نظام الكون مُعقّد ومُحكم بدقة وهذا دليل على أن هناك من قام بتصميم هذا النظام وبرمجته وهو الخالق الذي أوجد الكل من العدم؛ ثم تأتي بعض الفوضى أو الأحداث المفاجئة المخالفة للنظام أو التوقعات أو القوانين الفيزيائية كدليل على أن هناك من هـــو فوق كل القوى يقهرها، ويتحكم في القوانين ولا تحكمه القوانين؛ فالنظام دليل على وجود الخالق، وبعض الفوضى دليل على وجود الرب القاهـر الذي يصرف الأمور كيف يشاء».
ابتسمت هالة تلقائيا وهي تقول:
«لا أعرف إن كنت عالم آثار أم عالماً في الدين».
ابتسم حاتم وهو يقول:
«لا فارق».
ظــلاّ يتحاوران وقتاً ليس بالقليل حتى خلدت هالة إلى الـنـوم كعادتها عندما تستقل أي سيارة؛ وهي عادة قديمة اكتسبتها منذ أيام الجامعة، كانت لا تنام ليلا ولا يحلو لها النوم إلا في سيارة الميكروباص وهي في طريقها إلى الجامعة؛ التي تخرجت منها بعد أن حصلت على درجة الليسانس من كلية «الألسن» ثم عملت بعد تخرجها مرشدة سياحية؛ وهكذا التقت بحاتم.
أوشك النهار أن ينزوي، نظر حاتم ناحية الشمس وهي تغيب عن ناظريه كأنها تلوح له بأياديها مودعة إيّاه؛ تـَـفكّر فيها كثيراً؛ ما الذي يجعل هذا النجم الكبير القابع على بعد ملايين الكيلومترات من الأرض يُـسـخّـر بعضاً من طاقته لإضاءة كوكب كالأرض؟ بل لماذا يبثّ أشعته إلى الأرض ليؤمّــن الحياة عليها من خلال عملية التمثيل الضوئي؟ ترتيب عجيب! أن يوجد في الكون نجم يبث الضوء لكوكب، والأعجب أن يكون الكوكب الذي يصله الضوء بحاجة فعلية إلى هذا الضوء؛ فلو لم تكن الشمس كيف كانت الأرض تكون؟ لو حلّ الظلام الدائم على الأرض هل ستبقى كما هي؟ هل ستظل وطناً محبباً للإنسان؟ وهل كلّ هذا النظام موجود تلقائياً أم أنه موضوع لغرض؟
وبينما حاتم غارق في تأملاته وتساؤلاته إذ بدأ الظلام يحلّ في الأفق شيئًا فشيئًا، ويزيح الشمس وضوءَها رويدًا رويدًا.
غابت الشمس وحاتم ما يزال مستغرقاً في التفكير العميق، وقد ازداد ضغط قدمه على دواسة البنزين تلقائياً دون أن يشعر، فزاد تسارع السيارة بشكلٍ كبير، وفجأةً اصطدمت السيارة بمطب صناعي، وقفزت للأعلى كفرس سباق يقفز فوق الحواجز؛ لم يصدر من حاتم أي ردة فعل؛ كأن المفاجأة أعجزته عن التصرف، لم يتمكن من أن يضغط المكابح، كما لم يتحكم بالمِقْوَد الذي فـرّ من بين يديه أو تخلّت عنه يداه رغماً عنه، استيقظت هالة مفزوعة تصرخ، مالت السيارة يميناً وهي في الهواء، وسقطت على أقصى حافة الإطارات ثم مالت يساراً كذلك وكادت تنقلب، وتكــرّر الأمــرُ مرتين حتى استقرت السيارة، واستمـرّ حاتم في السير كأنّ شيئا لم يكن غير عابئ بصرخات هالة التي ما خفتت إلا بعد أن اطمأنت أنهما ما يزالان على قيد الحياة، وفوجئ حاتم بمطب جديد فتجاوزه ببطء هذه المرة ثم نظر لأعلى فإذا به أمام بوابة تحصيل الرسوم.
بعد أن مـــرّ من البوابة قالت له هالة في حدة:
«أنا غير مرتاحة لهذه السفرية».
نظر لها فرأى الهلع يسيطر على وجهها، والفزع يكاد يقفز من عينيها، أدار وجهه ناحية الطريق وهو يضغط بأسنانه على شفته السفلى ويفكر في الأمر فاستمرت تقول:
«هيا بنا نرجع».
عاود النظر إليها وقد أطلقت شفـتُــه سراحَ أسنانه فبدأت تظهر ابتسامة خافتة تدريجياً، وظلت تكبر حتى بدت ملحوظة، فاحتدّت هالة أكثر وهي تقول:
«لماذا تضحك؟».
كان هدوؤه الظاهري يكاد يصيبها بالجنون، أجابها محاولا تهدئتها:
«لا أضحك يا هالة أنا فقط أحاول أن أبتسم؛ ما الذي حدث لتطلبي أن نرجع؟ فكري في الأمر جيداً».
كأن مجرّد ردّه عليها قد هــدّأ من روعها قليلا، فأجابته بنبرة أهدأ من سابقتها:
«كدنا نموت مرتين وتسأل عن السبب؟».
قال لها مستنكراً:
«نموت!».
ثــمّ فكّر في أن هالة بطبيعتها تعطي الأمور أكبر من حجمها، وأنه اعتاد منها على التهويل في مواقف تافهة؛ ولكن هذه المرة معها بعض الحق في أن تخاف، فأوقف السيارة جانباً وأطفأ محركها، واستدار إليها وهو يقول في رفق:
«يا هالة! هذه الأمور تحدث كل يوم، فلا تربطي بينها وبين سفرنا، الموت يأتي في أي مكان وبأي سبب».
ثم صمت برهةً وابتسم وهو يضيف:
«أعرف أنك تختلقين أسبابا لكي تهربي من هذه الرحلة التي لم تكن على هواك منذ البداية».
حرّكت رأسها نفياً وهى تقول بعد أن هدأت:
«لا يا حاتم، أنت تعلم أنني وافقت على هذه الرحلة من أجلك، ولا يمكن أن أختلق أسباباً للعودة».
فقال لها معاتباً برفق:
«إذن لماذا تريدين أن تحرميننا من الاستمتاع بهذه الرحلة؟ دعي عنك هذه الأفكار وابحثي عن المتعة فحسب، ثم ماذا لو عدنا وحدثت معنا في طريق العودة أحداث كهذه أو أكثر هل ستقولين نرجع لمواصلة رحلتنا مرة أخرى أم ماذا؟».
وقعت الجملة الأخيرة في نفس هالة كماءٍ بارد في جوف ظمآن، فتنهدت تنهيدةً طويلة ونـظـرت لحاتم بارتياح وقالت بتسليم:
«معك حق».
كان ردُّها بمثابة الإذن له بمواصلة المسير فأدار محرك السيارة وتحرّك بها بسرعة كأنه يخاف أن ترجع في كلامها؛ بينما عادت هي لنومها كأنّها تلوذ به خوفا من أن يصيبها مكروه، أو كأنّها تفضل أن يحدث هذا المكروه وهي نائمة فربّما لا تشعر به أو ربما تفضل الــكــوابـيـــس الــمــفــزعة عـلى الــواقـع الــمـخــيــف.
اسـتـمـرّ حاتم في القيادة؛ ولكن بجسدٍ منهك من طول المسافة، ومن الضغط الذي واجهه طوال الطريق، ومن قلة النوم أو عدمه؛ فليلة السفر بالنسبة له دائماً ساحة صراع بينه وبين النوم فكأنّه يُطارد النوم والنوم يطْرُده، صار جسده يقود السيارة آلـيـاً بينما عقله في مرحلة ما بين اليقظة والمنام؛ أوشك على الوصول.
أخرج هاتفه وقام بالاتصال بالمهندس «خالد» مالك الشاليه؛ والذي رحّب به وهنّأه على سلامة الوصول ثم أخـبـره بـأنّه سـيـكـون فـي انتظاره، فطلب منه حاتم أن يرسل له موقع الشاليه على أحد تطبيقات الهاتف المحمول.
بدأ في تتبع المسار على الخريطة؛ وهو يستمع للصوت الآلي الممل الذي راح يوجهه:
«على بُعد مائة متر منعطف».
«دوران للخلف».
«انعطف ناحية اليمين قليلا».
تعجب في نفسه من هذا الصوت الآلي الغريب فهو صوت فتاة غير مألوف بالنسبة إليه؛ استمر الصوت يوجهه إلى أن فوجئ بسرعة السيارة تتزايد بطريقة لا تتناسب مع قـوة ضغطه على دواسة البنزين، فتوقف عن الضغط على دواسة البنزين ورغم ذلك استمرت السيارة على سرعتها ليكتشف أنه في طريق منحدر وملتوٍ للغاية، ولولا أنه تدارك الأمر وضغط الفرامل ضغطات خفيفة متقطعة ليهدئ من اندفاع السيارة لسقطت السيارة بهما من هذا الارتفاع الشاهق؛ نظر للصوت الآلي نظرة لوم يعاتبه على أنه لم يخبره بهذه المفاجأة وبأن الطريق منحدر كأنه ينزل من أعلى قمة جبل؛ لم يفق من صدمته ومن خطورة الوضع الذي كان فيه إلا على قول الصوت الآلي:
«لقد وصلت إلى وجهتك».
وقف حاتم بالسيارة حيث أخبره الصوت الآلي، وجد نفسه في طريقٍ موازٍ للبحر، بــدأ يتفحص المكان جيداً بعينيه بحثاً عن الشاليه أو أي شاليه فلم يجد شيئاً!
استيقظت هالة على صوت حاتم وهو يتعارك مع الصوت الآلي، ويتهمه بالتضليل وينعته بالفشل، سألته وهي تبتسم وعيناها نصف مغمضتين عن السبب فأجابها:
«انظري حولك وأنت تعرفين، لقد ضللنا الطريق والسبب هو هذا الشيء السخيف».
قالها وهو يشير إلى شاشة الهاتف المحمول حيث تظهر الخريطة، فابتسمت أكثر وهي تقول له:
«وما ذنبه؟ تـأكّـد من مالك الشاليه مرة أخرى».
عاود حاتم الاتصال بالمهندس خالد؛ بينما استغرقت هالة في الاستمتاع بنسيم البحر الذي يتلمس وجهها في حنان، وبينما هي مأخوذة بهذا الإحساس الممتع إذا بحاتم قد أنهى مكالمته وقال لها:
«لقد وصلنا بالفعل، هيا بنا».
نظرت حولها ثم نظرت إليه ورددت النظر أكثر من مرة بينه وبين المكان حولهما وظهر التعجب واضحا على ملامح وجهها، فقال لها:
«لا تتعجبي لقد تأكدت أن هذا هو المكان، ولكن لا يمكن للسيارة أن تصل للشاليه، سوف نـوقفها هنا ونذهب للشاليه سيراً على الأقدام».
تفهّمت هالة الأمر، وأخذت ما أمكنها من أشياء معها وتركت ما تبقى وهو الأكثر لحاتم، وسارا سوياً وأقدامهما تغوص في الرمال تحت ضوء القمر الخافت.
الشاليه ليس بعيدا عن الطريق ولكنه في الوقت نفسه لم يكن ظاهراً لهما في البداية، ربما بسبب الظلام الذي يطوقه من كل جانب وربما لم يكن ضوء القمر كافيا للكشف عنه.
وقفا على بُـعـد أمـتـار من الـشـاليه ينظران إليه بتفحص، ويتأملانه بتدقيق؛ ثم تبادلا نظرةً كلها شغف، وقطع صمتَهما صوتُ هالة:
«للمرة الثانية أقول لك معك حق».
قالتها بصوتٍ ممتلئٍ بالحماسة، وبــدا عليها الإعجاب الشديد بالشاليه وبمظهره الأخّاذ من الخارج، وقفت تتأمله وتلوم نفسها على أنها كانت معترضةً عليه في البداية، وعلى أنها لم تدقق النظر في صورته جيدا حين عرضها عليها حاتم، وحدثتها نفسها بأنّها لو نظرت إليه جيداً حينها لأصرّت على أن تزوره وحده ولو من دون بحر؛ فهو شاليه يحتوي على كل مظاهر الفخامة والرقي، مشيد بطريقة فنية رائعة، ومصمم بأسلوب يوحي بعظمته وبذكاء وذوق بانيه العالي، ويوحي أيضاً بأنه من الممكن أن يكون لهذا المكان تاريخاً حتى ولو لم يُكتشف هذا بعد.
نظر إليها حاتم ورفع رأسه للأعلى وهو يقول مداعباً في غرورٍ مصطنع:
«أنا دائما معي حق».
ثم ضحكا سوياً، وبدءا يخطوان تجاه الشاليه حتى وصلا إلى درجات سُلّم الشاليه؛ وكانت هذه الدرجات مضيئةً بضوء يتحوّل لونُه من البرتقالي إلى الأحمر ثم العكس؛ تعجب حاتم من هذا اللون وتساءل في نفسه عن مصدر هذا الضوء، فقلّب وجهه للأعلى فوجد مجموعة من المصابيح الملونة الموجهة الى درجات السلم مضفيةً عليه هذا الضوء المبهج الذي يتشكل بأشكال كثيرة، لفت انتباهه أنها مشابهة تماماً للثعبان والفأر والأسد المنحوتـيـن على أغلب أحجار الشاليه، مما أزاد إعجابه بالشاليه أكثر من ذي قبل.
[2]
ضغط حاتم على زر الجرس المثبت على الجانب الأيمن من باب الشاليه، والذي كان مضيئاً بضوءٍ أحمر قانٍ.
فُـتِحَ البابُ تلقائياً فدخلا ووجدا المهندس خالد في انتظارهما ومعه زوجته وأولاده الثلاثة.
رحّب المهندس خالد بهما وعـرّفهما على زوجته وأبنائه بنبرة سريعة وشبه آلية أثارت تعجب حاتم ولكنه التمس له العذر فربما هو شخص عملي لا يحب أن يهدر وقته؛ نظر حاتم ناحية الأطفال الثلاثة الذين لم يتجاوز أكبرهم الثامنة من العمر؛ ابتسم لهم ابتسامة ودودة ولكنّ وجوههم ظلت عابسة أو حزينة بعض الشئ ولم يتكلّما بكلمة واحدة؛ حاول خالد تدارك الموقف فاستأذن ثم انصرف على وعـدٍ بلقاءٍ آخر بعد أن يرتاحا.
تَبِعهم حاتم إلى الباب يودّعهم بنظرة مملوءة بالاستغراب، ولكنه يتقبل تصرفاتهم على كل حال فهو مقتنع تماماً بأن اختلاف طبائع البشر أمـر حتمي وضروري؛ بينما اتجهت هالة إلى المطبخ فوراً بخطواتٍ متسارعة؛ كأنها في مسابقة عَـدْوٍ سريع مع الجوع الذي سيطر عليها.
أغلق حاتم الباب خلفهم وهوى بجسده على الأنتريه وتمـدد وأغلق عينيه لبعض الوقت، فلقد أُجهدت عيناه من القيادة كل هذه المسافة وبالأخص أثناء الليل لانخفاض الإضاءة على الطريق وشدة أضواء السيارات المقابلة التي كادت تصيبه بالعمى.
وما إن أغمض عينيه حتى برزت بـقـعـة ضــوءٍ لامعٍ متكتلة داخل جفونه وشـعُـر بسخونةٍ شديدة في عينيه؛ كأن عينيه تفرغان كل الضوء الذي تشرّبتا به طوال الطريق.
أفاق على صوت هالة وهي تدعوه لتناول الطعام، نهض مسرعاً؛ فعلى الرغم من الإرهاق والتعب الشديد؛ إلا أنه بادر بتلبية نداء العزيز الغالي؛ نداء معدة خاوية من أعماق جسدٍ مرهق.
قامت هالة بفرد مجموعة من ورق الجرائد التي أحضرتها من المطبخ ورصت الطعام فوقها على المنضدة وبدءا يتناولان الطعام، ثم أمسك حاتم بكوبٍ ممتلئٍ بالماء وأفرغه في جوفه، فرغ الكوب تماماً وحاتم ما يزال ممسكا به على فمه كأنّه يشرب، لا تسقط قطرةُ ماءٍ واحدةٍ في فمه، ورغم ذلك فهو مستمر على هذا الوضع، أصيبت هالة بالدهشة مما ترى.
دقّـقت هالة في وجهه فوجدته ينظر ناحية اليمين إلى الأسفل دون أن يرمش، خشيت أن تكون قد أصابته شرقة، نادته متسائلة في قلق:
«حاتم! ماذا بك؟!».
لم يُجبها فنهضت واقفةً وتحركت نحوه لتحاول إنقاذه؛ لكنه حرّك رأسه ناحيتها فاطمأنت قليلاً؛ ولكنّ رأسه عادت تلقائيا للاتجاه نفسه، ناحية اليمين إلى الأسفل، فتحوّل نظرُ هالة تلقائياً في هذا الاتجاه، فوجدته ينظر لخبر منشور في صفحة من الجريدة المفرودة على السفرة.
أمسكتها واقتلعتها من مكانها… قرأت ما فيها… امتقع وجهها.. ألقتها.. احتضنت حاتم.. صرخت!
اختفاء المهندس خالد عبد الرازق وزوجته وأبنائه الثلاثة في ظروف غامضة!
مرت ثوانٍ ثقيلة وهما على هذه الحال يحتضن كلٌّ منهما الآخر في خوف شديد، بـدأ حاتم يتفلّت من بين ذراعَيْها، وهي من شدّة الذعر لا تريد أن تُـفـلـتـه، لكنّه نجح في تجاوز ذراعيها بيديه، وأمال جسده ناحية اليمين للأسفل، والتقط قصاصة الجريدة التي انتزعتها هالة، كانت الصفحة الأولى من الجريدة؛ مجرد عنوان بلا أية تفاصيل والتفاصيل منوه عنها أنها في الصفحة الثامنة فسألها:
«أين وجدت ورق الجريدة هذه؟».
«في المطبخ».
«هل يوجد غيرها؟».
«لا».
أمسك كل ما طالته يده من ورق الجريدة على السفرة بحثاً عن أية تفاصيل أخرى، فلم يجد إلا أنه بالكاد تمكن من أن يقرأ الشهر الذي صدرت فيه «ديســــمـ…»!
قال في نفسه بلهجة استنتاجية وَجِــلَة:
«الجريدة صادرة في شهر ديسـمـبر ونحن الآن في شهر أغسطس! هذا لا يعني إلا أن هذا الخبر منشور في العام الماضي على الأقل أو في أي عام قبله».
لقد صعقه تاريخ الخبر المنشور في الجريدة أكثر مما صعقه الخبر ذاته، انتفض واقفاً فانتبهت هالة لحركته المفاجئة فازدادت رعباً وألقت بنصفها الأعلى على الطاولة وأسندت رأسها على ظهر يدها وأغمضت عينيها لبرهة قصيرة كأنها تهرب من الواقع، ثم رفعت رأسها واستدارت إليه بتثاقل ونظرت إليه نظرة متحيرة تبثه سؤالاً مفاده:
«كيف هذا؟!».
أخذ حاتم يستجمع كل قواه، استخدم كل الأساليب التي تعلمها من كتب التنمية الذاتية للسيطرة على أحاسيسه وعواطفه والتي يستخدمها دائماً للتغلب على خوفه أو غضبه أو عصبيته، ضغط أصبعه السبابة بالإبهام محلقاً بهما دائرة، وظلّ ضاغطاً حتى فـرّ الدم هاربا من أصبعيه، هـــدأ قليلاً؛ أحسّ بأنه قد بدأ لتوّهِ يستعيد توازنه وسيطرته على نفسه.
جعل يُفكّر بماذا يجيب هالة، ثم عاد فقال لنفسه:
«ليس المهم أن أجيب هالة المهم أن أطمئنها».
ثم مــّطّ شفتيه في حيرة.
«وأطمئن نفسي أيضاً».
ثم تغيرت ملامحه إلى الحزم قليلا وهو يضيف:
«والأهم أن أفهم ما يجري».
ثم رفع صوته قليلاً وهو يوجه كلامه إليها.
«هالة! لا ينبغي أن يسيطر علينا الخوف قبل أن نفهم ما يجري، أنتِ تعرفين جيداً أن …».
قاطعته هالة بـصرامة وصوتها مختنق:
«حاتم!».
صمتت لحظة تبتلع ريقها فوجدت حلقها جافاً كأنه صحراء قاحلة، تبدلت لهجتها من الصرامة إلى الضعف الشديد وهي تضيف ببطء ونظرة الهلع لا تفارقها:
«أ نـ ــ ـا خـ ــ ـائـ ــ ــفـ ــ ـة ولا…».
قاطعها حاتم:
«ولا تفهمين شيئاً، أنا دائما أقرأ أفكارك يا هالة».
قالها حاتم بابتسامة مكسوةً خوفا، ولكنّ مداعبته لم تكن في وقتها، لم تبتسم هالة فاستمر يقول وقد بــدا أكثر سيطرة من ذي قبل:
«ما الذي حدث يا هالة؟ لا شيء».
ثم أضاف في نفسه دون أن تسمعه:
«حتى الآن على الأقل».
وواصل حديثه لها.
«لم يحدث شيء. مجرد خـبـر غير حقيقي في جريدة غير مألوفة ليست كالجرائد التي نعرفها، انظري إلى تاريخ الخبر، هل قرأتِ تاريخ الخبر يا هالة؟ الخبر منشور العام الماضي تقريبا والمهندس خالد كان معنا منذ قليل».
أصاب الذهول هالة؛ ولكنّه لم يحل محل خوفها بل انضم إليه فكادت تصرخ من جديد؛ إلا أن حاتم تدارك الأمر وتكلم بقوة وحزم وسرعة قائلا:
«هالة! هذه الجريدة أكيد غير حقيقية؛ تاريخها قديم ولا يمكن أن تكون حقيقية؛ الحقيقة الوحيدة هي أن المهندس خالد كان معنا للتوّ.. وهذه الجريدة مزيفة أو ليست موجودة.. أو ربّما كان مهندساً غير خالد الذي رأيناه».
قاطعته معلنةً عدم اقتناعها.
“وزوجته وأبناؤه الثلاثة؟ هل هم غيرهم أيضاً؟”.
أيقن حاتم أن الأمر ليس هـيّـناً كما صوّرت له أساليب السيطرة الذهنية التي استخدمها قبل قليل، فأفسح المجال لتفكيرٍ منطقيّ هداه إلى فكرةٍ فقال:
«سأتصل حالاً بالمهندس خالد، وسنرى!».
الهاتف الذي تحاول الاتصال به غير موجود بالخدمة، من فضلك تأكّد من الرقم الصحيح وعاود الاتصال!
أُسقط في يد حاتم فانهار جسدُه على الكرسي وألقى بذراعيه على الطاولة، ثم كــوّر كف يده وضغطه في عصبية وضرب به الطاولة ضربة موجعة فـأنّت كأنّها طفل رضيع، اخترق الصوت أذن حاتم مثلما أوجع قلب هالة الذي لا يتحمل بكاء طفل رضيع؛ رغم أنّها بلا أبناء حتى الآن.
مضت لحظة تألُّم هالة من صوت بكاء الطفل الرضيع على حاتم كألف عام، فلقد أدرك ما أغفلت عنه هالة عواطفـُها.
«لا أحد سوانا في الشاليه، فمن أين يأتي صوت الطفل؟!».
سؤال سمعته هالة فأدركت ما جرى للتو، شهقت وغزت الصدمة جسدها كله، فأحسّت بحرارة جسدها ترتفع ودقّات قلبها تتصارع كأنّ كلّ دقة تُسرع حتى تلطم الدقة التي تليها، أو كأنّ قلبها يريد أن يفــرّ هاربا من سجنه الأبدي قفصها الصدري.
أمّا حاتم فلم يكن عنده أي اختيار إلاّ أن يستسلم للأمر الواقع ويعترف بينه وبين نفسه بأنه قد أخطأ في حجز هذا الشاليه الغامض وأن هالة كانت محقة تماماً؛ لكن لم يعد هناك وقت للوم، وهالة لم تلُمْه؛ وهو يعلم أنها لن تلومه أبداً، فلم يَـعْـتـد منها ذلك؛ ولكنه رغماً عنه أحسّ بغزو التوتر لجسده عضواً فعضواً حتى بدأت رجلُه اليمنى تفـرّغ هذا التوتر باهتزازت متتالية لا إرادية كأنّها قد صُعقت بالكهرباء؛ ولكـنّه عاد فتمالك نفسه باستخدام أسلوب جديد من أساليب السيطرة الذهنية؛ وقام بتحليل الموقف سريعاً وفـنّـد كل احتمالاته، وبدا متحيراً وهو يقول لنفسه:
«لا بد أننا ارتكبنا خطأ جعل كل هذا يحدث، فما هو يا ترى؟».
عصر ذهنه مفكرا في كل الأسباب الممكنة.
«هل السبب هو دخولنا هذا الشاليه نفسه؟!».
وقف السؤال في حلقه فلا هو نزل إلى معدته وهضمه ولا هو صعد إلى عقله وتقبله؛ ورغم غرابة هذه السؤال إلا أنّهُ لم يجد بُـدّاً من البحث عن إجابته؛ ولكن عقله لم يَهْدِه إلى شيء فعاد يحدث نفسه قائلا:
«لقد تسببتُ في المأزق الذي نحن فيه الآن ولا بد أن أنهيه في أسرع وقت؛ ولكن لا مجال للخوف، فالخوف لن يخرجنا من هنا هو فقط سيمنعني من التفكير؛ لا بد أن أهـدأ أولاً».
حدّث نفسه بهذا وقام بتهدئة نفسه على الفور حتى بــدا كأنّه ما اضطرب لحظة، وطـغى هدوؤه المفاجئ على سائر جسده فتوقفت قدماه عن الاهتزاز تلقائياً، وتبدّلت ملامحُ وجهه من الذعــر إلى السكينة، ومن العبوس إلى البسمة.
كادت هالة أن يصيبها الجنون وهي تخاطبه بصوت مرتفع وبلهجة شديدة لم يعتدها منها.
«ما بك؟ لماذا تبدو هكذا؟ لماذا تبتسم؟ ماذا تنتظر حتى تتأكد أننا في مكان غريب وخطير؟ هذا المكان؛ هذا المكان لم يكن مريحاً بالنسبة لي من البداية والآن أشعر أنه غير آمن، لا تقل لي لا تتشاءمي، أنا أعلم جيداً كل الأفكار الإيجابية التي يمكن أن تقولها لي، لا أريد كلاما من هذا، لا أريد تفاءلي تماسكي توقعي الأفضل، ما تفكرين فيه سيحدث لك، ما تركزين عليه ستجلبينه إليك، لا أريد كل هذا؛ إذا كنت أنت فعلت هذا ولذلك اطمأننت وجلست هادئا هكذا، فأنا أريد أن أقول لك إنها مجرد مسكنات، مسكنات وفقط؛ مشكلتنا لن تنتهي يا حاتم بالاعتقاد الإيجابي وحـده لا بد أن نفعل شيئاً، لا بد أن نغادر هذا المكان.. فوراً»
قالتها وانطلقت ناحية باب الشاليه وهي تجتذب حاتم من يده عنوة حتى كادت تخلع كتفه.
وقـفـا أمام الباب محاولين فتحه بكل الطرق.
لم يُفتح ؛ وكل المحاولات لم تُفلح.
الباب مصنوع من الحديد؛ كأنه بوابة قصر عملاق.
أخذت هالة ترْكُل الباب بقدميها ويديها ثم بكتفها الأيمن مراتٍ عديدة، وتخلّلت صرخاتُها كلَّ ضربة والتي تليها حتى أنها لم تعد تميز إن كانت تصرخ من ألم الارتطام بباب حديدي أم من ألم الاحتجاز في هذا المكان الغريب؛ وكلّما أدركت عجزها عن فتحه صرخت أكثر، حتى فقدت الأمل فانهارت باكية وهي تستند بكتفها على الباب، وبدأت في السقوط للأسفل وكتفها يحتّك بالباب حتى جلست على الأرض وشعرت بألم شديد في كتفها نتيجة الضربات المتلاحقة التي وجهتها للباب؛ بينما وقف حاتم ثابتاً ومـدّ يـده وأوقفها وأسندها فمشت تجـرّ رجليها بصعوبة حتى وصلا إلى الأنتريه، فقالت وهي تجلس مرغمة بصوت أقرب للصراخ:
«لن أجلس! لن أجلس هنا أفكر بإيجابية وأنتظر حــتْـفي، لا بد أن نفعل شيئاً.. الأمر خطير.. خطير للغاية.. هذه ليست حادثة سيارة من التي تحدث كل يوم».
ثم اكتست كلماتها المذعورة بنبرة غضبٍ ممتزجة بسخرية عاجزة وهي تضيف:
«نقابل شخصاً ونكتشف أنه مختفٍ منذ فترة، نسمعُ أنين طفل رضيع ولا أحد غيرنا هنا، وها هي قد اكتملت الباب لا يُفتح، هل تم احتجازنا هنا؟! هه؟ أجبني هل نحن محتجزون هنا؟!».
ثم خفت صوتها قليلا وتحوّل الى نبرةٍ بائسة وهي تقول:
«إننا في خطر؛ صدّقني؛ ولا تقل لي أن أهدأ، لن أهدأ إلا بعد أن أخرج من هذا المكان المخيف، لن أهدأ إلا بعد أن أعـود لبيتنا».
لم يقاطع حاتم ثورة هالة بل تركها تفرغ كل ما لديها؛ ولكنه رفع رأسه عند كلمتها الأخيرة إذ قالتها وأمسكت يده وضغطت عليها بقوة كأنها تستنجد به، فنهض واقفا والإصرار يكسو ملامحه وهو يقول لها:
«سأبحث عن مخرج آخر».
قالها وانطلق يجوب الشاليه في كل الاتجاهات بحثاً عن أي مخرج، يميناً ويساراً، صعوداً ونزولاً، أرادت هالة أن تلحق به لكن قواها خارت ولم تـقدر قدماها على حملها فجلست مستسلمة باكية منتظرة إلى أن فوجئت بحاتم يقف أمامها ويقول بإحباط شديد:
«للأسف لا يوجد أي مخرج، لا يوجد شباك واحد حتى في هذا الشاليه».
[3]
جلس إلى جوارها يُفكر وقد تسلّل التوتر إلى قدمه اليمنى مرة أخرى فعادت تهتز من جديد، ثم استدار ناحيتها قائلاً في رفق:
«هالة! أنا أقدر خطورة الموقف الذي نحن فيه، لن أكلمك عن الإيجابية ولا التفاؤل، ربما أنا متأكد أكثر منك أن الشواهد كلها ليست مطمئنة، ويبدو أننا تم احتجازنا هنا بالفعل».
«يبدو؟!».
قالتها بنبرة يأس ساخرة.
«نحن محتجزون في هذا المكان، وأنتِ تقولين لا بُـد أن نفعل شيئاً، وأنا أسألك ما هو هذا الشيء الذي يجب أن نفعله؟ هل سنجلس هكذا مكتوفي الأيدي؟!».
توقّف فترة عن الكلام مفسحاً لها الوقت لتجيب، بينما ظلّت هي تفكر وتسأل نفسها:
«ماذا يمكن أن نفعل؟».
لم تجد إجابة منطقية فآثرت الصمت، فواصل هو قائلاً:
«هالة! إلى الآن لم يُصبنا مكروه، ولكن لن ننتظر حتى يصيبنا، صحيح أنا لا أفهم ما هذا المكان ولا أعرف لماذا لا يمكننا مغادرته، ولكن ما زال بإمكاننا فعل الكثير، على الأقل يمكننا البحث في الشاليه نفسه عن أي شيء؛ أي شيء مهما كان صغيراً يمكن أن نفهم منه ما يجري؛ أي شيء يمكن أن يبين لنا طبيعة هذا الشاليه أو طريقة الخروج منه، وأعتقد أننا لا نملك أكثر من هذا، فما حدث قد حدث؛ هل عندكِ حل آخر؟».
تفكّرت هالة في كلامه، ومضت دقيقتان وهي تقلّب الأمر في رأسها، حتى تيقّنت بأنه على صواب وأنه لا يوجد حل آخر، وأن غضبها لن يغير الواقع، وبكاءها لن يفيد في شيء، فبدأت تهدأ رويدا رويداً، وبدأ هذا الهدوء يطفو على ملامح وجهها وهي تقول:
«معك حق».
وعندها أدرك حاتم أن أول خطوة رسمها في سبيل حلّ الأزمة التي يمران بها قد نجحت وهي استعادة الهدوء أولاً وقبل أي تصرف، فالتقط الكلمة الأخيرة من فمها وأدرك أنه من الممكن أن يبُثّ مداعبة تلطف الجو بعض الشيء، فابتسم وهو يقول:
«أنا دائماً معي حق».
لم ترفض هالة مداعبته هذه المرة وإنما قابلتها بمداعبة أخرى فقالت:
«كلمتك هذه هي التي ستقضي علينا».
ثم ابتسمت وأحسّت كأن الحياة تدبُّ في جسدها من جديد، فنهضت واقفة كأنها نبتة خضراء تشق أرضاً قاحلةً لتخرج للنور أو على أملٍ بأن ترى النور؛ شـدّ حاتم على يدها فوقفت إلى جواره كأنها تعلن الانضمام إليه.
قرّرا أن يقلبا الشاليه رأسا على عقب، بحثاً عن أي شيء يمكن أن يهديهما إلى معرفة سبب ما يحدث معهما في هذا المكان الغامض، واتفقا على مبدأ ثابت منذ البداية؛ وهو ألا يفترقا.
أخذا يفتشان سوياً في الصالون، ثم تحت الكراسي والطاولة وخلف التلفزيون، ثم توجها سوياً إلى المطبخ يمشيان بحذرٍ شديد كأنهما يطآن زجاجاً أو يسيران على شوك، فرغا من المطبخ والحمام وعادا فصعدا إلى الطابق العلوي ونقّبا في كل مكان فيه ولم يصلا إلى شيء ذي بال.
نـزلا إلى الأسفل وكررا البحث مرة أخرى فلم يجدا شيئاً؛ وفي اللحظة التي بدأ اليأس يتغلب فيها لمحا شيئاً لامعاً، فتوجها إليه وهما يمشيان سوياً كتفاً بكتف وبخطوات ثابتة كأنهما في عرض عسكري.
باب موصد.. ذو مقبضٍ ذهبي.. منحوت على شكل أسد.