[1]
وقف حاتم يتفحص المقبض الذهبي المثير للاهتمام والدهشة.
مقبض غريب غير معتاد ينبض بالحياة كأنه أسد حقيقي يبث الرهبة في نفس من ينظر إليه؛ ورغم ذلك فهو وديع وضئيل جداً للدرجة التي طمأنت حاتم وجعلته يقبض عليه بيده وهو يقول لهالة في سعادة:
«ربما نستطيع الخروج من هذا الباب».
وما كادت أصابعه تستقر حول المقبض حتى فوجئ بيده ترتد إلى الوراء رغماً عنه كأنّ المقبض يدفعها للخلف، حاول الإمساك بالمقبض للمرة الثانية فنفرت يـده كأنّها هي والمقبض مشحونين بالشحنات المغناطيسية ذاتها، حاول مرة ثالثة فشعر كأنه أفلح في الإمساك به ولكنْ خُيّل إليه أنه صعق بماس كهربائي دفع يده بعيدا عن المقبض؛ نظر لهالة من طرف خفي فأدرك من فرط ذهولها أن هذا قد حدث حقيقة.
أدرك فشله في فتح هذا الباب أيضاً فقرر الكف عن محاولة فتحه ولو مؤقتاً؛ وقرر كذلك أن يظلّ ثابتاً حتى لا يثير المخاوف في نفس هالة من جديد؛ فهو لا يصدق أنها بالكاد قد هدأت.
قـرّر صرف نظرها عمّا رأت فأدار ظهره للباب وهو يجذبها من يدها برفق ويقول ببساطة:
«لا مشكلة؛ باب جديد يرفض أن يُفتح؛ ولكن لا بُـد أنّ هناك طريقة أخرى للخروج؛ فهل لديك حل آخر؟».
استطاع بهذا السؤال أن يوجه تركيزها ناحية الحل وألا يتركها فريسة للتفكير السلبي الذي يمكنه أن يقضي عليها أسرع من الواقع المرعب الذي تعيشه؛ لم يشأ أن يتركها حبيسة في أفكارها خصوصاً بعد أن أعلن هذا الباب أيضاً العصيان ورفض أن يُـذعن لهما كبقية أركان هذا الشاليه العجيب.
التقمت سؤاله وهي تسير إلى جواره شبه مخدرة، فلا هي تستوعب شيئاً مما يحدث، ولا هي قادرة على أن ترفض هذا الواقع المفروض عليهما قهراً، ولا حتى تستطيع أن تغيره.
استجمعت كـلّ ما تبقى لديها من قدرة على التفكير المنطقي وهي تجلس على الأنتريه مستسلمة؛ وبعد برهةٍ طرأت على ذهنها فكرةٌ تبدو بديهية؛ ولكنّ الصدمة أفقدتهما الكثير من قدراتهما التحليلية والمنطقية فلم ينتبها لهذا من قبل؛ فقالت وكأنّ الكلمة تقفز من فمها:
«الهاتف المحمول!».
قالتها ووثبت من مكانها وهرعت إلى حقيبة يدها تستخرج هاتفها، وفي الوقت نفسه قام حاتم يبحث عن هاتفه فوجده مختبئا هناك أسفل كرسي طاولة السفرة فانحنى ليلتقطه وهو يسمع صوتها مملوءاً بالأسى والإحباط وهي تقول:
«لقد وجدته؛ ولكنه فاصل شحن».
التقط هاتفه وتفحصه.
«هاتفي متبقٍ به خمسة في المائة فقط».
«اتصل بالنجدة سريعاً».
قالتها وهي تتحرك تجاه الشاحن وتقوم بتوصيل هاتفها به؛ بينما اتصل هو برقم الطوارئ فجاءه صوت فتاة من الطرف الآخر يجيبه:
«كيف يمكنني مساعدتك؟».
تعجّب أشد العجب من هذا الصوت، عاود النظر في هاتفه مرة أخرى ليتأكد من الرقم الذي اتصل به؛ هل اتصل بالنجدة فعلاً أم بخدمة العملاء؟! وبعد لحظة تمعُّن قال في نفسه مستغرباً:
«هذا صوت آلي؛ صوت الفتاة الآلي».
ارتفع صوته في الكلمة الأخيرة فسمعتها هالة فسألته:
«آلي! ماذا تقصد؟».
قام بفتح مكبر الصوت فظهر صوت الفتاة الآلي واضحاً وهي تكرر سؤالها الذي يبدو مبرمجاً «كيف يمكنني مساعدتك؟» وما إن سمعت هالة الصوت حتى أشارت له بيدها أن ينهي المكالمة على الفور.
استجاب حاتم لأمر هالة دون تفكير فأنهى المكالمة وهو يسألها:
«ولكن لماذا؟».
«هل رقم النجدة يتم الرد عليه بهذا الشكل؟».
«لا».
«إذن فلابد أن هناك خدعةً ما ولا يجب أن نكون فريسة سهلة».
ثم أضافت ساخرةً:
«هذه المرة على الأقل».
«إذن ماذا برأيك يمكننا أن نفعل بالهاتف المحمول؟».
«الانترنت! طالما أن الهاتف به شبكة فربما يمكننا تصفح الانترنت دون أن يلاحظ أحد ودون أن نعطي معلومات لصوت آلي لا نعرف من وراءه».
لمعت عيناه وفهم ما تريده من تصفح الانترنت فدخل بسرعة إلى المتصفح ومنه إلى محرك البحث وكتب فيه «المهندس خالد عبد الرازق».
وافاه محرك البحث باقتراحات كثيرة فظلّ يمرر للأسفل حتى وقعت عيناه على الخبر الصادم، فضغط عليه وبدأ الموقع في التحميل.
اختفاء المهندس خالد عبد الرازق وزوجته وأبنائه الثلاثة في ظروف غامضة.
11:20ص .. الجمعة 2/12/2022م.
كتبه: إبراهيم طارق.
وردت صباح اليوم أنباء تفيد بتغيب المهندس خالد عبد الرازق وزوجته وأبنائه الثلاثة منذ عـدة أيام، وحتى هذه اللحظة لم يتم التوصل إليهم ولا معرفة سبب اختفائهم، وقد تم تشكيل فريق بحثٍ على أعلى مستوى.. وسنوافيكم بالتفاصيل.
(جريدة الأيام2022)
تبادلا نظرة ملؤها الدهشة فالخبر الموجود في القصاصة صحيح.
لم يتكلما بشيء إنما عادا يقرآن الخبر مرة أخرى كأنهما يتأكدان مما رأوه، ثم قال حاتم مستنتجاً:
«إذن المهندس خالد مختفٍ منذ ثمانية أشهر تقريبا».
قالها بسهولة بعض الشيء هذه المرة وكأنّه تقبل فكرة أن يقابل شخصًا منذ دقائق ثم يكتشف أنه مختف منذ شهور أصبح يتعامل وكأن هذا الأمر مألوف أو يحدث دائماً؛ بينما هالة لم تتكلم بشيء وإنما بدأت تدور برأسها أفكار عصية على الحصر حتى أرهقت من كثرتها فقررت أن تطلق سراح إحداها فسألت:
«ألا يمكن أن يكون خالد نفسه هو اللغز؟».
فهم ما ترمي إليه فهزّ رأسَه نفياً محاولا إنكار هذه الفكرة؛ ولكنّه رغم ذلك أحس بتشتت رهيب وشعر كأنه أصيب بدُوار وهو يجيبها:
«لا يمكن هذا مستحيل».
«منذ أتيت إلى هنا وأنا قد نسيت هذه الكلمة، كل شيء كان مستحيلا أصبحت أراه عاديا، أصبح كل شيء ممكناً.. لقد بدأت أشك… لا؛ بل أصبحت متأكدة من أن المهندس خالد هذا ما هو إلا مجرم محترف يستدرج ضحاياه إلى هذا الشاليه، وهنا يكون مثواهم الأخير، ولا بد أنه يعرف ما يفعله جيداً؛ الشاليه محكم الغلق وبدون نوافذ؛ كل شيء مُعَدٌ سلفاً لاستقبالنا الاستقبال الذي يؤدي بنا إلى الموت رعباً أو الانتحار فلا أحد يصمد في هذا الجو الغامض المرعب أكثر من بضع ساعات، وهذا هو ما يراهن عليه خالد؛ أعصابنا وقوة تحملنا؛ جريمة متقنة؛ ومن الممكن…. بل الأكيد أنّ هناك كاميرات تراقبنا في كل مكان من هذا الشاليه وتنقلنا إليه بالصوت والصورة».
توقفت هالة عن الكلام فجأة وأخذت تنظر حولها وفوقها تبحث في كل مكان يصل إليه بصرها عن أي شيء يشبه كاميرات المراقبة أو أجهزة التسجيل وكذلك فعل حاتم تلقائياً مثلها؛ ولمّا لم يجدا شيئاً عادت تقول:
«هو يدرك جيداً ما يفعل ربما لن يترك شيئا يسهل اكتشافه، ولكن لماذا اختارنا نحن؟ لماذا نحن بالتحديد؟ كيف يختار ضحاياه؟!».
استمع حاتم لاستنتاجاتها التي غيرت قناعته المبدئية فـبــدا متفقاً معها فيما تقول وظل عاجزاً عن النطق فترة من الوقت مرت عليهما في صمتٍ بهيم لا يقطعه بين الحين والآخر إلا صوت أمواج البحر الهادر في الخارج والتي انتبه لها حاتم للمرة الأولى منذ وصولهما فقال:
«ربما تكونين محقة جداً فأنا لا أستطيع أن أصل لأي سبب لوجودنا هنا غير هذا، وما يؤكد صحة استنتاجك هو صوت الموج خارج الشاليه؛ فلو كنا معزولين عن العالم الخارجي بفعل قوة خفية لما وصل إلى سمعنا أي صوت من الخارج؛ فعلاً المجرم لابد أن يترك وراءه ثغرة تكشف جريمته، ولكن خالد لم يستدرجنا؛ بل أنا الذي اخترت الشاليه وحدي».
«أعرف هذا؛ ولذلك أنا في قمة الحيرة ولا أجد إلا تفسيرا واحداً هو أنه لا يختار ضحاياه لسبب معين ولا يهمه من الذي سيبادر بحجز الشاليه، المهم عنده أن يأتي أحدهم بقدمه إلى هنا.. إلى المصيدة.. يرتكب جريمته ثم يخفي معالمها ويبحث عن ضحية أخرى أو مكان آخر لارتكاب جريمة جديدة».
تأملها بعض الوقت ثم قال:
«ولكن! إذا كان خالد هو من وراء كل هذا فلماذا اختفى هو نفسه؟ هل ليعطي نفسه الفرصة لارتكاب جرائمه دون أن يتم كشفه؟».
«بالطبع هذا هو السبب».
اعترض حاتم قائلا:
«ولكن! هل زوجته وأبناؤه الثلاثة مشتركين معه فيما يفعل؟».
كان السؤال صعباً وإجابته احتاجت من هالة أن تعصر ذهنها أكثر من مرة محاولة إيجاد إجابة منطقية وفي الأخير قالت:
«زوجته وأبناؤه الثلاثة؟! هل أنت متأكد من أن خالد متزوج ولديه أبناء؟».
«ماذا تقصدين؟!».
«أقصد أنه ربما هذه ليست زوجته ولا هؤلاء أولاده؛ بل أنا متأكدة الآن أن هذا تشكيل عصابي منظم جداً».
«لن أختلف معكِ ولكن ماذا يكسب من كل هذا؟ ما دافعه؟».
«ربما هناك رابط ما بين ضحاياه؛ ربما يربطهم جميعاً شيءٌ واحد.. وربما يقتل لمجرد القتل.. يتلذذ بهذا.. وربما يضحي بهم لأجل شيء خفي يطلب منه هذا ليمنحه شيئاً ما».
«ربما! كلها احتمالات ولكن يبقى الدافع وراء ارتكاب الجريمة مجهولاً، وتبقى الجريمة نفسها مجهولة؛ فنحن لا نعلم حتى الآن ما هي هذه الجريمة ولا نعلم إن كان هناك جريمة من الأساس؛ فكل ما نعرفه أن أحدهم اختفى والآن أصبحنا نشك في أنه هو نفسه قاتل وأنه يخطط للتخلص منّا مثل بقية ضحاياه الذين افترضنا وجودهم، كلها احتمالات واستنتاجات غير منطقية أو على الأقل لا يوجد دليل واحد عليها».
صمت لحظة ثم أضاف مشدداً:
«لو كان خالد كما تقولين هو من يخطط للتخلص منّا ويراهن على قوة تحملنا فالأمر بسيط يمكننا أن نتحلى بالهدوء والثبات إلى أن يمر كل هذا بسلام».
«أتمنّى هذا».
خرجت الكلمة الأخيرة من فمها مصحوبةً بتنهيدةٍ محترقة؛ ثم عادت لتسبح في أفكارها دقائق مرت عليها كأنها دهر طويل، ثم رجعت من رحلة تفكيرها العميق وكأنها اقتنصت صيداً ثميناً فقالت بصوت خفيض يسمعه حاتم بالكاد:
«أصبحت أشك في شيء آخر مختلف تماماً، أصبحت أشكُّ في أن خالد هو من قام بكل هذا؛ لكنّه لا يريد التخلص منك بل يريدك أن تكون هنا!
أبلغ أنه اختفى ليتيح الفرصة لنفسه ليختلي في هذا الشاليه دون رقابة، ولابد أنه لم يخبر أحداً بأنه يملكه، قـرر جلبك إلى هذا المكان، اخترق هاتفك المحمول، تحكم فيه بالكامل، بدأت تظهر أمامك إعلانات ترويجية في كل موقع من مواقع التواصل الاجتماعي تستخدمه، وكل هذه الإعلانات منصبة حول ضرورة حجز شاليه لقضاء شهر العسل، بعد فترة وجدت نفسك تفكر بالفعل في حجز شاليه وأخبرتني بالفكرة فرحبت بها على الرغم من تعجبي الشديد لأننا متزوجين منذ عامين!
المهم أنه نجح في استقطابك إلى فكرة حجز شاليه ثم عند بحثك عن شاليه محدد تكرر ظهور هذا الشاليه أمامك، تصميمه ملفت جداً بالنسبة إلى واحد مثلك متخصص في الآثار؛ شاليه على شكل هرم؛ وتحت ضغط التكرار المستمر تحقق له ما أراد وها أنت هنا بالفعل؛ أليس هذا هو ما حدث معك بالفعل؟».
«بلى؛ هذا هو ما حدث معي بالضبط».
ثم واصلت قائلة:
«هاتفك مخترق وهاتفي كذلك؛ وهذا يفسر سبب عدم إجرائهما أية مكالمة ويفسر أيضاً الصوت الآلي المبرمج الذي أجابك في السيارة وهنا؛ ولكن الشيء الوحيد المقلق في هذا هو أن خبر اختفاء خالد نفسه ربما يكون غير صحيح! فطالما أن الهاتف مخترق فلابد أن هذا الخبر كذلك مصطنع؛ أما الشاليه! فهل هناك شاليه بدون نافذة واحدة؟ كيف هذا؟ الناس تأتي إليه لأجل الهواء فإذا به مصمت؛ هل هذا معقول؟».
«كلامك منطقي جداً؛ ولكن لماذا يريدني هنا؟».
«الأمر واضح، يظنّ أن هذا المكان به آثار، وأنت الوحيد القادر على تأكيد هذا أو نفيه، قرر أن يجلبك إلى هذا المكان ويحتجزك فيه، ولا بد أنك ستبحث عن مخرج، وبالطبع لن تجد مخرجاً عاديا، وستبحث في كل مكان، ووقتها ربما تكتشف شيئا يلفت انتباهك، فإذا وجدت علامات تدل على وجود آثار فلا بد أنك ستحاول الاتصال والابلاغ عن ذلك ووقتها لن تبلغ أحدا سواه؛ سيتلقى هو أو الصوت الآلي المكالمة، ويتأكد هو من صحة ظنونه فيغامر ويحفر المكان المطلوب أو الشاليه بأكمله؛ وبعدها ينتهي دورك وتخرج من هنا بسلام بعد أن يبلغك الصوت الآلي بأنه سبق التنقيب في هذا المكان من قبل ولم يُكتشف شيء أو بأنَّ هذا المكان ليس له أي تاريخ أو أي سبب آخر؛ وحينها تكفُّ عن البحث وتحاول الخروج فيسمح لك بالخروج؛ أو لا تصدق الأسباب التي سيحاول أن يقنعك بها الصوت الآلي وتتخطى الحد الذي رسمه لك فلا تخرج من هنا أبداً».
«هذه فكرة محتملة ولكنّها تدل على طريقة تفكير ساذجة».
«ساذجة؟ لماذا؟! ألم تبتلع الطعم؟ ألست محتجزا في قلب الشاليه الآن وتبحث عن مخرج بالفعل؟ ألم توشك أن تخبر الصوت الآلي بشكواك وتتعامل معه بطريقة عادية؟ صدقني لم تعد سوى خطوة واحدة؛ أن تكتشف شيئاً وينتهي الأمر كله».
«أكتشف شيئاً؟ وماذا بعد؟».
«سنبتلع الطعم بإرادتنا ونطمئنه تماماً أننا لم نفهم لعبته، وبعد أن نخرج من هنا بسلام سنبلغ عنه، حتى يتم إلقاء القبض عليه متلبسا بجريمته».
صمت ملياً ثم قال:
«لقد ذكرتني فكرتك هذه بالعقدة الغوردية».
تجهمت ولم تستوعب ما يقوله، فسألته في دهشة:
«ما هذا؟ ماذا تقصد؟».
جلس مسترخياً في مقعده وهو يشرح لها:
«كان الإسكندر الأكبر يخوض معاركه وفتوحاته، فمرّ بمدينة كان بها عربة مربوطة بعقدة لا يظهر منها أي طرف حبل، وكان لدى أهل هذه المدينة نبوءة تقول إن من سيحل عقدة الحبل هذه هو ملك آسيا الحق، ولم يستطع أحد حلّ العقدة أبداً حتى جاء الإسكندر وعندما لم يجد طرفاً للحبل ليحل العقدة قام بقطعها بضربة من سيفه قائلاً: إنه من غير الضروري معرفة الطريقة الصحيحة لحلها.. وهكذا قام بحلها! بكل بساطة.
ومن وقتها وعبارة “العقدة الغوردية” تستخدم للدلالة على أية مشكلة صعبة يتم حلها بعمل جريء».
فهمت هالة مراده فاستمر يقول:
«وما تقترحينه أنتِ الآن هو عمل جريء لحل المشكلة الصعبة التي تواجهنا؛ ولكن إن فشلنا في هذا العمل فسندفع الثمن غاليا جدا».
صمت برهة يفكر في أن كل الاحتمالات التي تقولها هالة مقبولة ولا يمكن أن يعترض عليها؛ فمن السهل أن تشك في أن خالد مجرم متمرس يقضي على ضحاياه في هذا المكان الموحش بعيداً عن الصخب ولهدف يعلمه هو وحده.
ومن السهل أيضا أن تصدق أنه يبحث عن الآثار في هذا المكان وأراد جلب أحد أهم العلماء إليه ليستخدمه كأداة للكشف عنها ثم يتخلص منه بعد ذلك فالاحتمالان مقبولان؛ ولكن حاتم لا يمكنه أن يفعل شيئًا حيال الاحتمال الأول، فقط يمكنه أن ينتظر حتفه على يـد هذا المجرم؛ أما الاحتمال الثاني فيعطيه الفرصة لكي يفعل شيئا، أي شيء يمكن أن ينجيهما من هذا المكان، وهو ما جعله يأخذ قرارا بأن يبني على الاحتمال الأخير ويشرع في البحث عن الآثار في هذا المكان ربما وصل لشيء.
حاصر ذهنه بسؤال واحد: «من أين أبدأ البحث؟».
فيما سبق كان يبحث عن مخرج ينقذه من هذا المكان الغريب، والآن صار يمارس عمله العادي وهوايته المحببة؛ صار يبحث عن آثار، ولكن للمفارقة فإن هذه هي المرة الأولى التي لن يُـنْسب اكتشافه له ولا لغيره بل ربما لا يعرف أحدٌ به أصلاً؛ فأحدهم قابع في مكان ما ينتظر اللحظة التي ينقض فيها على ما يتم اكتشافه لا لينسب الاكتشاف لنفسه فهذا لا يعنيه وإنما ليسلب كل شيء.
أخذت تمر في ذهنه صورٌ لكل الأماكن في الشاليه فقد حفظه عن ظهر قلب من كثرة ما صال فيه وجال بحثا عن مخرج، ولم يُثِرْ غريزته الأثرية الفطرية سوى ذلك الأسد الذهبي؛ فهو الشيء الوحيد في هذا المكان الذي يبشر بوجود كنز وراءه بل ربما يكون هو نفسه كنزاً.
[2]
بـدأ هو وهالة في التحرُّك من مكانهما في الصالة باتجاه الباب الخلفي مرة أخرى، نظرا سوياً لمقبض الباب الذي أعلن العصيان من قبل رافضاً دخولهما، لم يُتعب نفسه كثيرا في تكرار المحاولات السابقة وإنما توجه للمطبخ وجلب بعض المعدات الثقيلة!!! سكينا ومفكا!!!!
ظل يحاول فتح الباب بشتى الطرق وقال وهو يلهث من التعب:
«هذا الباب يمكن فتحه أما الآخر فلم يكن هناك من داعٍ لمباراة المصارعة التي لعبتيها معه».
ضحكت من دعابته فأشار لباب الشاليه وواصل قائلا:
«فمثل ذلك الباب الحديدي إن لم ينفتح من تلقاء نفسه ويسمح لنا بالخروج عن اقتناع فلن يغير رأيه تحت وطأة ضرباتك القوية، أما هذا الباب الخشبي فيمكن أن يرضخ للضغوط».
نطق الكلمة الأخيرة بقوة وعنف وهو يضغط بالمفك على لسان الباب حتى استطاع تحريكه بصعوبة فانفتح الباب وارتمى هو على الأرض يلتقط أنفاسه بصعوبة قائلاً:
«أخيراً قطعت الحبل الأول».
نهض وبدأ يفتح الباب فأصدرت مفصلاته أنيناً كأنين طفل رضيع مثل الذي سبق لهما سماعه تماماً؛ خُيّل إليهما أنهما يسمعان صوت سكين يتم حد شفرته.. فُتح الباب على مصراعيه.. وقفا مصدومين.
بعد برهة من التقاط أنفاسه تقدم حاتم خطوة للأمام وتأهّب للدخول وهو ينظر في عينيْ هالة؛ ظهره لها ورقبته ملتوية للوراء وعيناه مثبتتان في عينيها، ثم وضع قدمه اليمنى بالداخل فتأرجح وهوى جسده ناحية الأمام واختل توازنه تماماً؛ كاد يسقط لولا يد هالة التي جذبته بسرعة وقوة فاعتدل واقفاً مذهولاً وهالة مرتعبة من خوفها عليه.
دارت تساؤلات كثيرة برأسيهما عن حقيقة ما وراء هذا الباب؛ إنه بات متأكداً الآن من أن وراءه فراغ؛ ولكن كيف هذا؟ ولماذا؟
قطع ذهولهما صوتُ هالة المملوء بالدهشة وهي تشير إلى الحفرة:
«حاتم! انظر».
كان حاتم ما يزال واقعاً تحت تأثير صدمة السقوط الوشيك؛ يفكر في الاحتمالات التي كانت من الممكن أن تحدث له؛ ربما أصيب إصابة بالغة وربما قُضي عليه في هذه الحفرة العميقة؛ وقف ينظر إليها بتفحص؛ حفرة عمقها يتجاوز الستة أمتار تقريباً، معتمة لا يكاد يرى فيها شيئاً لولا أن بعض الضوء الذي يأتي من الصالون من خلفه تسرب من بين قدميه ومن حوله على استحياء ليكشف بعض أجزاء من هذه الحفرة؛ سأل نفسه: «هل هذه مقبرة؟ أثرية؟ فرعونية؟ يونانية؟ حديثة؟».
ساورته الشكوك لكن خالجه يقين واحد هو أن هذه الحفرة ما هي إلا مقبرة أيا كان تاريخها؛ إن هالة محقة تماماً فيما قالت؛ هذه الحفرة في هذا المكان الغريب لا تدل إلا على أن أحدهم كان يحفرها حتى وقت قريب، ولكن لماذا توقف عن ذلك؟ ولماذا سمح لنا بحجز الشاليه؟ لا يوجد تفسير واحد مقنع غير الذي توقعته هالة.
«لقد اتضح الأمر إذن؛ أنا هنا بفعل فاعل كما قلتِ».
«أتمنى أن أكون مخطئة».
كأنها كانت تتوقع وتضع الاحتمالات لا لتحدث هذه الاحتمالات والتوقعات وإنما لتوجد أمــلاً يمشيان وراءه ربما ينجحان في الخروج من هذا المكان الموحش؛ ولكنها في الوقت نفسه لم تكن تتمنى أن يكون توقعها صحيحاً؛ لأنّ صدق توقعها يعني أن فرص نجاتهما تتضاءل إن كانت هناك فرص للنجاة بالأساس.
بدت حزينة محبطة وهي تفكر في حالهما وما يجري لهما وتحدث نفسها بأسىً:
«إنه شيء غريب؛ يوم أن نقرر قضاء شهر عسل نرفه فيه عن أنفسنا قليلاً ونهرب من صخب الحياة وأزماتها، نصطدم بأزمة أكبر من كل أزماتنا؛ ونحتجز في مكان غامض مغلق من كل جانب! الآن أتمنى لو بقينا أحراراً في مكاننا هناك؛ حيث مشاكل الحياة اليومية التي لطالما تبرمت منها».
لم يُضع حاتم وقتاً كثيراً في تفحص المكان وتأمله؛ بل انحنى يبحث عن شيء يستطيع استخدامه في النزول إلى قاع هذه الحفرة؛ وأخيرا وجد ما يبحث عنه؛ حبل سميك مربوط في وتد حديدي مثبت في الجدار، ولمح عدة أحجار بارزة في جانب الحفرة وراء المكان المثبت فيه الحبل مباشرة، تساعد على النزول؛ اعتقد أن هذه الأحجار ربما تكون قد وضعت بمعرفة من حفر هذه الحفرة من قبل لولا أنه دقق النظر فيها فاتضح له أنها تتخذ أشكالا متعددة؛ فالحجر الأول منها على شكل أسد والذي يليه فيه التواءات ونتوءات وينتهي برأس ثعبان، والأسفل منهما على شكل فأر؛ وهكذا تتكرر الحجارة بالأشكال ذاتها والترتيب نفسه حتى قاع الحفرة… أصبح متأكدا أن هذه الأحجار لم توضع بمعرفة من حفر الحفرة، وإنما ربما كانت هي سبب قيامه بالحفر أصلا، وربما هي التي أغرته بأن نهايتها تؤدي إلى غرفة ملكية مليئة بالمومياوات والذهب.
«سأحفر هنا وليكن ما يكون».
قالها حاتم وهو يمسك بالحبل ويهم بالنزول وهالة تحاول منعه؛ ولكنه لم يلتفت إلى كلامها الذي تبدد في ظلمة هذه الحفرة؛ يئست من أن يستجيب لها فصمتت مترقبة؛ وصل منتصف الحفرة تقريباً وذرات تراب قليلة تتساقط في فمه حتى جف حلقه، وما إن وضع قدمه على الحجر التالي حتى انكسر الحجر وارتطم بقدمه فهوى جسده وأفلتت صرخة متألمة منه حاول كبتها؛ لم تعد قدمه مستندة إلى الحجر وإنما صار معلقا في الحبل وحده؛ صرخت هالة وجذبت الحبل تلقائيا بشدة؛ لكنها لم تستطع جذبه للأعلى؛ فنادته بنبرة باكية:
«حاول أن تساعدني.. ارفع جسدك معي».
«لا أستطيع قدمي تؤلمني جدا».
لم يكد يُتم كلمته حتى فوجئ بحجر آخر انخلع من مكانه نتيجة حركة الحبل يميناً ويسارًا وهوى على يديه الممسكتين بالحبل فأفلتهما رغما عنه.
صرخت هالة وارتعبت بينما أطلق هو صرخة مكتومة فور أن استقر جسده في قاع الحفرة.
حاول التغلب على الألم الذي يشعر به ويكبته وهو يقول لها بصوت كله وجع:
«أنا بخير. لا تقلقي».
وقفت لا تعرف ماذا تفعل، ولا تعرف أُتصدق كلامه الذي يحاول طمأنتها به أم نبرته المتألمة، ولكن حيرتها لم تستمر طويلاً؛ إذ يبدو أنه لم يتحمل الألم أكثر من هذا ولم يعد قادراً على مقاومته فصرخ.
عاودت الصراخ تلقائيا بمجرد سماعها صرخته وهي تسأله في لهفة كلها فزع:
«حاتم! ماذا جرى لك؟ هل أنت بخير؟ حاتم!».
أدرك أنه أفزعها فحاول كبت ألمه وصدمته واصطنع كل ما يمكنه اصطناعه من هدوء مفتعل في هذا الموقف العصيب وأجابها بصوت أهـدأ من سابقه تخلله رغما عنه تألمه الشديد:
«بخير. أنا بخير؛ لكن!».
«لكن ماذا؟».
«لكن… لا شيء؛ فقط أشعر أنّ بجواري جسد إنسان لا يتحرك».
حاول أن ينتقي ألفاظه قدر الإمكان حتى لا يثير فزعها أكثر؛ فلم يشأ أن يستخدم تلك الكلمة الواحدة التي تغنيه عن كل هذه الأوصاف: «جثة!».
ويبدو أن حذره هذا كان في محله وأنتج أثره؛ فبدلا من أن تصرخ سألته:
«ماذا تقصد؟».
سؤال استفهامي، حقيقي، مجازي، تقريري، إنكاري، توبيخي، تعجبي؛ المهم أنها لم تدرك بعد حقيقة ما قلته لها للتو؛ زوجها ملقى إلى جوار جثة في حفرة عميقة وقدمه لا تقوى على حمله؛ وهي تقف لتسأله ماذا تقصد؟ لقد نجحتُ في لفت انتباهها بعيداً عن المشكلة الحقيقية هذه المرة؛ أيضاً!
لم يُجب على سؤالها فالإفصاح عن تفاصيل أكثر سيضر ولن يفيد؛ فقط بدأ يتفحص الجثة المتيبسة الملقاة إلى جواره ويجسُّها بيده؛ لقد اعتاد أن يتعامل مع المومياوات التي ماتت منذ آلاف السنين، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يتحول فيها إلى طبيب شرعي يتعامل مع مومياء حديثة الوفاة!
هذا ما ظنه في البداية؛ ولكنه بمزيد من الفحص اكتشف أن ما إلى جواره ليس إلا ذلك الكُـرَيْـك الذي كان يُستخدم في حفر هذه الحفرة وعليه سُترة من قام بحفرها.
تنفس الصعداء وسارع بإخبار هالة بهذا الخبر السعيد، صحيح هي لم تكن قد أدركت بعد حقيقة ما وجده لكنها شعرت بالاطمئنان لمجرد إحساسها بالفرح في صوته.
ظلّ يبحث في السترة عن أي شيء، أي شيء يكشف شخصية من قام بالحفر أو هدفه وبالفعل اهتدى إلى هاتف محمول في جيب السترة.
تمنّى لو أنه كان قد تمكن من النزول دون أن تصاب قدمه ليستطيع مواصلة الحفر على الفور؛ ولكنه اضطر تحت ضغط الألم الذي يشعر به أن يفكـر في طريقة للخروج سريعاً من هذا المكان الذي من المستحيل عليه أو على غيره مغادرته إلا بمعاونة أحد؛ ولكن هالة لن تستطيع أن ترفعه بواسطة الحبل مهما حاولت؛ من غير الممكن أن تجذب بذراعيها فقط ثمانية وسبعين كيلوجراماً؛ لا بد من حل آخر؛ تفتق ذهنه عن فكرة فخاطب هالة هاتفاً:
«هل الباب فيه أي جزء بارز؟».
«نعم؛ في المنتصف تقريبا وراء المقبض، كرة حديدية بحجم المقبض».
«ممتاز، سأرخي لك الحبل قليلا لتقومي بجذبه وتمريره حول الكرة الحديدية حتى تتحول لتصبح كأنها بكرة يلف حولها الحبل وبعدها سأمسك جيدا في طرف الحبل وكل ما عليك هو أن تقومي بدفع الباب بجسدك كله وبكل قوتك».
على الفور فعلت ما كلفها به؛ وبعد أن انتهت تمكن هو من لف جزء من الحبل حول خاصرته وعقده ثم رفع يديه للأعلى وتعلق بالحبل؛ بدأت تدفع الباب بكل جسدها تحولت الكرة الحديدية بالفعل إلى بكرة، نجح الأمر واستطاع أن يصل بيديه إلى حافة الحفرة بينما بقية جسده مازال في منتصف الحفرة أو فوقها بقليل وقد توقف الباب عند هذا الحد؛ أدرك أنه لم يحسب حساب قطر الدائرة التي يتحرك فيها الباب والتي لن تعادل طول الحفرة بالتأكيد، ولكنه تدارك الخطأ الفني الذي وقع فيه على كل حال وقال لها بصوت مشحون بالألم:
«سأتشبث بحافة الحفرة قليلا وبسرعة قومي بغلق الباب مرة أخرى وتقصير الحبل وأعيدي لفه حول الكرة الحديدية من مكان أقرب لكن بسرعة».
نجحت في تنفيذ ما قاله حرفيا؛ ثم أخذت تدفع الباب بكل ما أوتيت من رغبة في إخراجه من هذه الحفرة، وبكل ما أوتيت من لوم لنفسها على تسببها في سقوطه فيها بتحليلاتها الكثيرة؛ أوشك على الخروج إلا أنه لم يحسب حساب خطأ فني آخر؛ لقد انخلعت الكرة الحديدية من مكانها بفعل ثقل وزنه وقوة دفعها للباب؛ ترنّح مرةً أخرى ولكن لحسن الحظ كانت إحدى قدميه وإحدى يديه خارج الحفرة فتركت هالة الباب مسرعة وانطلقت ناحيته وتشبثت به حتى عدّلت وضعه واستطاع الخروج بالكامل.
[3]
سقطت الكرة الحديدية وسقط وراءها عـدّة أوراق تناثرت على الأرض؛ مجموعة من الأورق المكورة والمحشورة بغير نظام داخل الفجوة الموجودة خلف الكرة الحديدية وكأن من وضعها لم يكن لديه متسع من الوقت لفعل هذا بترتيب أو أنه شخص كسول؛ إنها خزانة حديدية مختبئة داخل تجويف الباب.
تبادلا نظرة الحيرة التي لا تخلو من هلع؛ تلك النظرة المعتادة في هذا المكان؛ ثم انكبّا مباشرة على الأوراق يجمعانها ويحاولان ترتيبها.
[الورقة الأولى]
عقد تنازل من المهندس كريم سامي إلى المهندس خالد عبد الرازق عن نصيبه في مجموعة شركات النجم المضيء مؤرخ 1/12/2022م.
«كريم سامي رجل الأعمال المعروف تنازل عن نصيبه لخالد؛ كيف هذا؟ هل سمعتِ بهذا الخبر من قبل؟».
«لا؛ ولكن الملفت للنظر فعلاً هو تاريخ هذا التنازل».
«قبل اختفاء خالد بيومٍ واحد».
«إذن الأمر أصبح واضحاً؛ هل عندك شك في هذا؟».
«هل تقصد أن خالد ضحية وليس هو المجرم؟».
هز حاتم رأسه مؤيداً لها وهو يقول:
«ويبدو أن لكريم سامي علاقة بذلك».
قالها وشرع في فـرد الورق المتبقي في يده.
[الورقة الثانية]
مقصوصة من مفكرة! فارغة؛ إلا من كلمة واحدة مكتوبة في وسط الورقة وتبدو كأنها كانت بداية فكرة لم تكتمل.
*منظمة*
«منظمة! هل تفهم شيئا من هذا؟».
«لا؛ ويبدو أنه كتبها على عـجـل، ويبدو من طريقة كتابتها في وسط الصفحة ومن الدائرة التي وضع هذه الكلمة داخلها والفروع التي تشعبت عنها أنه كان يريد أن يرسم مخططاً تفصيلياً؛ يبدو أن الأمر ليس هيناً».
[الورقة الثالثة]
وثيقة زواج المهندس خالد عبد الرازق والمهندسة فاتن صادق بتاريخ 20/10/2020م.
لولا أنهما قد تعودا على المفاجآت في هذا المكان لما كانت ردة فعلهما على ما يقرآنه بهذا الهدوء؛ ولكنه هدوء لم يخل من نظرة الذهول المختلط بالهلع المعتادة.
لم يغرق حاتم في التفكير وإنما قفزت أفكاره وتساؤلاته على لسانه رغما عنه:
«ما هذا؟ كيف يكون خالد وفاتن متزوجين منذ ثلاثة أعوام ويكون ابنهما الأكبر في الثامنة تقريباً؟».
«ابنهما؟!».
خرجت تلقائيا من هالة بنبرةٍ ساخرة.
توقف حاتم عند وثيقة الزواج طويلاً يدقق النظر في صورة كل من خالد وفاتن.
الصورة باهتة بعض الشيء لكن ملامحهما مازالت واضحة، ظـلّ ينظر للصورتين بتركيزٍ شديد فقفزت مقلتا هالة معه تتفحصهما.
«لا يمكن أن يكونا هما اللذين قابلناهما قبل قليل».
لم يرد حاتم عليها واكتفى بزمّ شفتيه وهو يفكر في أن كل شيء قد تغـيـر، وكل المعطيات اختلفت تماماً.
«إذن خالد ليس مجرماً ولا باحثاً عن آثار كما توقعت؛ بل هو ضحية».
قالتها وهي محبطة نتيجة انهيار كل توقعاتها السابقة، ونتيجة إحساسها بالخطر المتزايد.
«ولكن لابد أن خالد ارتكب خطأ ما ليواجه هذا المصير».
«أتمنى ألا نكون قد ارتكبنا خطأ مماثلاً!».
لم تكد تمضي لحظة واحدة حتى صدمهما صوت جرس الشاليه وهو يرن؛ من الذي يرن الجرس وكيف؟! لم يستغرقا كثيراً في أسئلة من هذا النوع؛ فرغم كل دهشتهما وصدمتهما نهض الأمل في صدرهما وتجلى في نظرتهما فنهضا سوياً بسرعة؛ شخصٌ ما يرن الجرس وهي فرصة لا تعوض للخروج من هذا المكان، وانطلقا يستبقان الباب بخطوات سريعة ولكنهما توقفا قبل الباب بمترين وتساءلا فيما بينهما:
«كيف سنفتح له والباب لا يُفتح؟».
«ليس مهماً؛ المهم أن شخصاً ما بالخارج ويمكننا الاستعانة به».
تساءلا بصوت مرتفع في وقت واحد:
«من؟».
«أنا .. أنا خالد».
صدمهما ردُّه فتراجعا خطوتين كأن اسمه قد دفعهما للخلف؛ فكر كل منهما في نفسه:
«ماذا يجب أن نفعل وكيف يمكن أن نتصرف في هذا المأزق؟ هذا الشخص هو الذي تتعلق عليه آمالنا في الخروج من هنا ولكنه ينتحل شخصية شخص آخر، فهل يمكن الوثوق به؟».
على كل حال لم يمهلهما هو وقتاً أكثر للتفكير وإنما بادر قائلاً:
«هل يمكنني أن أدخل؟ أعلم أنكما لا تستطيعان أن تفتحا الباب».
تساءلا في نفسيهما عما يعنيه وكيف عرف أنهما لا يستطيعان فتح الباب.
«أعرف أنكما تتعجبان من هذا سأدخل وأشرح لكما كل شيء».
لم يكد يفرغ من كلمته الأخيرة حتى وجــدا الباب الحديدي الثقيل يتحرك ووجداه أمامهما.