رواية – قارئ الذكريات – الفصل الأول

مُتواليةُ تساؤلاتٍ تدور في ذهني كُلّما جلستُ بشرفة منزلي مع كوبي المفضل من الشاي تحت جنح الظلام وأضواء لافتات الإعلانات المتقلبة تداعب عيني.
من أنا؟ لماذا أنا هنا؟ لماذا لم أكن عدمًا؟ لماذا أُعطيتُ لسانًا؟ لماذا لي عينان؟ لماذا لي عقل؟ لماذا لي ذاكرة؟ ألم يكن من الأفضل أن تمر الأحداث فأنساها كأنها ما كانت؟
وعند التساؤل الأخير أتوقفُ كثيرًا، ضاحكًا من نفسي؛ لأن ذاكرتي ليست كذاكرة البشر، كل البشر ذاكرتهم تختزن ما حدث معهم، شاهدوه أو سمعوه أو فكّروا فيه، أما أنا فتأتيني ذكرياتٌ لم تكنْ، أحداثٌ لم تحدث في حياتي؛ فهل أنا فاقدٌ للذاكرة؟ أم أنّ لي ذاكرة أناسٍ آخرين؟ هل يُعقل أن أكون شخصًا بأكثر من ذاكرة؟
سألتُ محرك البحث عن حالتي لعلّ لديه الجواب، بحثت عن «الذاكرة»، عرّفتْها الويكيبيديا بأنها عملية الاحتفاظ بالمعلومات لمدة من الزمن لغرض التأثير على الأفعال المستقبلية، فإذا كنّا لا نستطيع تذكر الأحداث السابقة، فلن نكون قادرين على أن نطور اللغة ولا العلاقات ولا هويتنا الشخصية.
ولكن لماذا أتذكر ذكريات الآخرين؟
Error 404
لم يعطني محرك البحث جوابًا، وإنما أعطاني أحد أكثر الأخطاء شيوعًا على شبكة الانترنت «لم يتم العثور على الصفحة 404»، وهذا يعني أنه لا يمكن العثور على ما تبحث عنه.
حاولت البحث في أقرب فكرة «شخص لديه القدرة على…»؛ توالت الاقتراحات «القدرة على رؤية الأشياء التي خلفه».
بالفعل إنني أرى الأشياء التي خلفي، ولكن خلفي في الزمن لا المكان.
«القدرة على إحباطنا».
يا لك من مضحك! أشخاص كُثُر لديهم القدرة على ذلك، وليس شخصًا واحدًا.
ضيّقتُ نطاق البحث «شخص لديه القدرة على رؤية الماضي».
نعم هذا ما أريده فالذكريات هي ماضٍ، ربما تكون هذه هي المفردات الأفضل للبحث عما أريد.
وجدت فيديو عنوانه: «هل يمكن أن نرى الماضي بأعيننا؟ الفيزياء الكونية تقول نعم».
هذه ضالتي، قد وجدتها، ضغطت زر تشغيل الفيديو.
«ربما لا تجد إنسانًا لم يتساءل مرة في حياته عن الزمن وأبعاده، وهل يمكن أن يسافر إلى مستقبلٍ مجهول، أو يعود إلى ماضٍ قد فاته دون وعيٍ منه، ومع هذه التساؤلات جرّب الإنسان طرقًا عديدة، وتضاربت النظريات والآراء حول إمكانية التحكم في واحدٍ من أغرب مكونات الحياة، ألا وهو الزمن…».
هذا يعني أن حلّ لغزي هو الزمن، إنْ أعرف ما هو الزمن أقدر على فهم نفسي، وتحديد ما يجري لي من تجارب تُخيفني أحيانًا وأحيانًا تُصيبني بالشغف.
واصلت عرض الفيديو إلى أن استوقفتني جملة.
«…ابتكر العلماء طريقة لقياس المسافات في الفضاء تعرف بالسنة الضوئية، وهي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة كاملة، فعند النظر لنجم يبعد عن الأرض مائة سنة ضوئية مثلاً، نرى الضوء الذي خرج منه منذ مائة عام، أي أننا نرى الماضي، ماضي هذا النجم…».
ما هذا؟ إذن كل البشر يرون الماضي، لستُ وحدي، لكنهم يرون ماضي النجوم البعيدة، أما أنا فأرى ماضي الناس الخفي، أو ربما يصطاد عقلي الذكريات الهاربة من عقولهم والتي يريدون التخلص منها؛ هل أنا سلة مهملات الذكريات؟!
لم أعد قادرًا على مواصلة الفيديو، فقد أوشك الليل أن ينقضي، وباغتني النوم.
استيقظت في الصباح الباكر وانطلقت إلى البنك وقد تشوهت صورتي الوسيمة التي اعتدت رسمها أمام المرآة كل صباح، وتفرّق شعر رأسي كأن كل شعرة تناصب الأخرى العداء رغم تهذيبي لها بأكثر الأمشاط حدة، ولكن يبدو أن التهذيب لم يجدِ مع هذه الخصلات الطويلة، أو ربما أنها غير مهذبة من الأساس، أو لا تقبل النصيحة، أو ترفض الأوامر، أو تتمرد على رأسي، مثلها مثل أفكاري الغريبة.
لكن الأفكار تتمرد داخل رأسي باحترامها ولا تخرج إلى العلن؛ إلا إذا أوشى بها ذلك الكائن الطويل القابع على باب كهف الفم يحرسه، المفترض أنه يحرس الفم والجسد كله؛ ولكنه يأبى إلا أن يتعامل مع نفسه على أنه مهاجم.
كم مرة حاولت أن أقنعه أنه مكلف بحراسة المرمى دون فائدة، يصرّ أن يقود الهجمات بنفسه ولو أنه سكن وسكت لاستراح واستراحت أفكاري واستراحت خصلات شعري الناعمة واستراحت عيني وهدأ بالي ونمت نومًا عميقًا.
لكنه عنيد يصر في كل يوم أخرج فيه من شقتي أن يخرج هو الآخر من مكمنه ولا يعود إلا بعد أن يكون قد ارتكب عدة فظائع أظل أدفع ثمنها لأيام وربما لسنين وأنا أحاول أن أصلح ما أفسده، علاقات تقطعت بسببه، وأصدقاء تباعدوا، وآخرون أظنهم الآن يتلقون العلاج بمصحة نفسية بسبب تنمره وعباراته وانتقاداته اللاذعة.
كم مرة أقول له لا شأن لك بالناس، لا تنتقدهم، دعهم وما يريدون، دعهم وما يحلمون، دعهم وما يفعلون، دعهم وما يقولون، دعهم وشأنهم واصمت، إلا أنه ينسحب من لسانه، لا أعرف كيف ينسحب اللسان من لسانه لكن لساني يفعلها، هو ماهر في أشياء كثيرة وربما هذه إحداها.
معاناة صباحية جديدة، وعلى الرغم مما أعانيه جسديًا من زحام المواصلات، وتطاحن الأجسام في المترو، إلا أن هذه ليست معاناتي الحقيقية؛ بل تلك الأصوات المتلاطمة في عقلي، ذكريات هذه السيدة الستينية التي تتعارك فيها مع والدتها التي توفيت منذ عشرين عامًا لأنها لم توافق على دخولها كُليتها المفضلة، ذكريات هذا الرضيع الذي يسخط على تأخر والدته في إرضاعه بالأمس، ذكريات ذلك الشاب الذي يبحث عن وظيفة كل يوم دون جدوى، ذكريات تلك الفتاة المبتهجة بحصولها على جائزة عالمية ورحلة معاناتها حتى نالتها.
أصوات متقاطعة ومتضاربة لا أستطيع صرفها ولا وقفها، ولكنني تعوّدتُ على حيلة أفِرُّ بها من هذه الذكريات التي هربت من عقول أصحابها إلى عقلي.
تعوّدتُ أن أواجه هذه الذكريات التي تقتحم عقلي بهجوم معاكس من ذكرياتي الخاصة؛ فبعد أن ألتقط عدة ذكريات وقصص من الآخرين ويبدأ عقلي في الضجيج، أشرعُ في تذكر بعض المواقف والأحداث التي جرت معي من قبل، فتشكل حائط صدٍّ منيع يحول دون وصول الأصوات إليّ، ولكن ما بات يؤرقني هو أنني لم أعد قادرًا على التمييز بين ذكرياتي وذكريات الآخرين التي استلبها عقلي منهم من قبل، إلاّ أنها حيلة تمنعني من الجنون على كل حال.
أجلس أخيرًا على مكتبي في البنك وأشرع في خدمة العملاء، أفتح حسابًا لأرملة حتى تتمكن من تحويل معاشها الشهري عليه، أحل مشكلة عميل آخر يريد تفعيل التطبيق البنكي الإلكتروني، أستخرج إفادة برقم الحساب والرقم الدولي لعميل آخر، متجاهلًا ذكرياتهم جميعًا ومحاولًا أن أتعامل بأريحية وبشاشة برغم معاناتي الداخلية.
ألمحُ رجلًا عجوزًا مقوس الظهر يدخل إلى البنك متكئًا على عصًا، يجرّ قدميه ويسير ببطء، ملامحه حادة، ونظراته مريبة، ينظر في كل اتجاه وكأنه مطارد، يأخذ رقمًا وينتظر دوره، الذي يُلقي به عندي، يستغرق وقتًا حتى يقدر على الوقوف أمام شُباكي، أنظر إليه في رفقٍ وإشفاق، وأتعاون معه ليُنهي ما جاء من أجله سريعًا، إلا أن العجوز لا يذكر ما يريد، ولا يعرف سبب مجيئه للبنك، فيقف محتارًا وقد أسقط في يده، فابتسمت له مخففًا عنه وقلت له بلطف:
«ديونك يا أفندم، كم ستسحب من رصيدك؟»
أفلتت الكلمة من بين شفتيّ دون وعي أو إدراك، وكنت قد عاهدتُ نفسي ألا أفشي سرًا مما تطرحه عليّ ذاكرتي الوهمية أو الإضافية، حقيقةً لا أستطيع معرفة طبيعتها حتى اليوم؛ هل هي ذاكرة وهمية تغذيني بمعلومات ومواقف وأشخاص وأحداث لا وجود لهم؟ أم أنها ذاكرة إضافية تأتيني بمعلومة موثوقة من مصادر معتمدة؟ لا أستطيع الجزم.
أحيانًا أشعر أنني أشبه المنجمين أكذب ولو صدفت أو صدقت، وأحيانًا أشبه العلماء أقول ما أعلم ولا أفتري كذبة واحدة؛ وهذا ما جعلني محتارًا غير قادر على معرفة طبيعة هذه الذاكرة الافتراضية، التي أيضًا لا أعرف إن كانت نعمة لي أو نقمة عليّ، لا أعرف إن كانت مزية أو رزية؛ بيد أن ما أعرفه يقينًا أنها موجودة، ولا بد أن أعرف طبيعتها يومًا ما.
التفتُّ للعجوز المصعوق من عبارتي كأن الكهرباء سرت في جسده وبات ملزمًا بتركيب عداد دفع إلكتروني؛ وقبل أن يزداد توترًا وعصبية، وقبل أن يلوح بيده، لا أعرف كم من الوقت سيستغرق ليلوح بيده إلاّ أنه سيفعلها في النهاية.
وربما سقطت عصاه على رأسي أو على الحاجز الزجاجي الذي بيننا؛ كل الشكر لمن وضع هذا الحاجز فربما كانت تلك العصا مستقرة فوق رأسي، ولكن هذا الحاجز لا يحميني تمام الحماية فلو سقطت العصا على الزجاج لحطمته، وحينها سيتناثر الزجاج فوق رأسي ورأس من حولي، ويصيبني ويصيب حتى من يضربني.
إذن كل اللوم على من قام بتركيب هذا الحاجز الزجاجي، ولكن ربما لم يتخيل هو ما تخيلتُه أنا، ربما لم يكن في حسابه أن أحدهم سيدخل حاملًا عصا يحطم بها الزجاج على رأس الموظف الغلبان.
على كل حال لم يحدث شيء من هذا كله، هي مجرد تخيلات ومواقف لم تحدث، أجدني أفيق منها على صوت العجوز المتقطع المتهالك المتصاعد؛ حتى إنه يأتي بأعلى طبقة في صوته وهو نفسه لا يكاد يسمع نفسه حتى أسمعه أنا، وبمشقة استطعت تمييز كلماته.
«كيف عرفت؟»
اختطفتُ نظرة سريعة إلى شاشة الكمبيوتر.
«حسابك يا أفندم يكشف عن ذلك بسهولة.»
إجابة مختلقة ولكنها بدت منطقية وكافية لطمأنة العجوز، الذي تنهد بارتياح ولم يَلْحَظْ أنه لم يُعطِ لي أية بيانات تمكنني من معرفة رصيد الحساب، حتى لمّا طلبتُ منه هذه البيانات بعد ذلك ليتمكن من سحب المبلغ المطلوب لم يلحظ أيضًا.
قبض العجوز على النقود بقوة لا تتناسب مع حالته الصحية، وكأنه يتكئ على هذه النقود بدلًا من عصاه، قبض عليها وكأنه يقبض على عمره، كأنه يخشى أن تفرّ منه كما فرّ عمره.
تحرّك كسلحفاة وعيناي عالقتان به في إشفاقٍ، وجدتني منجذبًا إليه وهو يسير تجاه باب الخروج من البنك.
وبمجرد خروجه من باب البنك سمع الجميع صراخًا وجلبةً بالخارج وصوت احتكاك إطارات سيارة بالأرض نتيجة ضغطة فرامل قوية.
لا أعرف إن كان الجميع قد سمع أم أنني وحدي الذي سمعت؟ والظاهر أنني وحدي، والظاهر أيضًا أنها ذاكرتي هي التي اجتذبت هذه الأصوات والمعلومات من الخارج، لأن كل من حولي يتعاملون بهدوء وكأن شيئًا لم يحدث، حتى إنني نتيجة هذا الصمت المخزي رغم وقوع هذا الحادث الأليم لذلك العجوز بادرت بتوجيه اللوم لزملائي.
ولا أعرف لماذا ألومهم وأنا مثلهم جالس لم أفعل شيئًا ولم أحرك ساكنًا؟ لماذا لا أنهض جاريًا إلى الخارج بحثًا عن هذا العجوز الذي أظنه الآن ممزقًا في الطريق؟
ما منعني من ذلك إلاّ صوت زميلي حسن الدهشان الساخر كعادته وهو يخاطبني كأنه يكلم مجنونًا:
«عن أي عجوز تتحدث؟»
«ما هذه الحماقة؟ العجوز الذي كان واقفًا أمامي وأنهى معاملته معي وخرج لتوّه»
هزّ حسن رأسه بدهشته المعهودة التي أخذ نصيبه منها من اسمه؛ وسألني مستفسرًا:
«تقصد العجوز الذي أعطاك العصا؟»
عن أي شيء يتحدث هذا اللزج؟ ماذا يقصد بأعطاني العصا؟ هل يريد أن يقول إنه ضربني بها؟
«لم يضربنِ يا حسن، أتفهم؟! لم يضربنِ.»
ضحك اللزج وقال باستفزاز:
«العصا التي كان يمسكها ولوّح بها في وجهك في غضب»
هل مجرد تلويحه بالعصا في وجهي يعني أنه ضربني، يا لك من شخص مقيت تصطاد في الماء العكر، تريد أن تضخم الموقف فقط لتسمع ضُحى هذا الكلام فأسقط من نظرها أكثر مما أنا ساقط، تحاملت على نفسي وكظمت غيظي وقلت له بصبرٍ نافد:
«نعم هو بعينه»
فضحك ساخرًا متهكمًا مرة أخرى بطبيعته اللزجة وقال بطريقته المقيتة:
«هذا العجوز كان هنا بالأمس يا عم ناروز، اصحى وصحصح واوعى تنام»
كأن كوب عصير قصب مثلج قد دخل لحلقي المتصحر في يومٍ حارٍ رطبٍ جافٍ معتدلٍ على الأمعاء الجنوبية شديد الحرارة على الفم واللسان والحلق؛ لا أعرف ما دور عصير القصب في هذا الموقف، ولكنه على كل حال يؤدي الغرض في وصف ما ألمّ بي من فقدان للأحبال الصوتية ولأي قدرة على النطق، فضلًا عن المغص الذي يفرك في أمعائي فَــرْكَ الفلفل الذي يُطحن.
ولا فائدة من معرفة دور عصير القصب ولا حتى الفلفل المطحون، إذا كنت أنا أصلًا غير قادر على التمييز بين الأحداث التي جرت بالأمس وتلك التي تجري اليوم.
لقد بدأت أشك أنني أعيش في اليوم من الأساس، وأخشى الآن أن أستدير إلى حسن الدهشان لأسأله عن عبارته التي قالها للتو، فأجده يخبرني بدهشته اللزجة أنه قالها لي بالأمس لا اليوم أو أنها ستكون غدًا أو لن تكون على الإطلاق‼
 يا للحيرة، كيف يجري هذا معي؟ وكيف أعمل في البنك وأنا على هذه الحالة من التركيز المتدني؟
المتدني‼ بل قل المعدوم، هل أعمل هنا من باب الشفقة؟ لماذا يتحملون شخصًا مثلي؟ ولماذا يتركونني معهم إلى الآن؟ ولكن ما أدراني أنني معهم؟ إنني منذ لحظات كنت أعيش في الأمس ولا أعرف الآن في أي لحظة أعيش.

 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top