رواية – قارئ الذكريات – الفصل الرابع

 

لا أصدق أنني خرجت من قوقعتي، وأنني الآن أجلس على كافتيريا راقية في أحد الشوارع القريبة من بيتي.


أراقب الداخلين والخارجين، أرمق من يتناول عصيرًا ببطء، وأنظر لمن ينتظر النادل ليمر عليه.


سأستخدم القدرة العجيبة التي لديّ، سأترقب وأراقب حتى أجد فرصة مناسبة للتدخل باستخدام خاصية قراءة الذكريات.


عيناي تجوبان المكان بتحفز حتى سقطتا على شخص مهيب يدلف للكافتيريا، يبدو عليه الثراء الفاحش، كما يبدو باطشًا قوي البنية ضخمًا، ويحيط به حارسان شخصيّان.


طريقة دخوله الكافتيريا لا تنبئ بخير بل تبدو كنذير شؤم، تبدّى ذلك واضحًا في فرار العاملين بالكافتيريا من وجهه، ونظراتهم المذعورة إليه، من يا ترى سيء الحظ الذي سيفتكون به الآن؟


انقلبت الكافتيريا رأسًا على عقب، حركة دائبة من العاملين فيها لتلبية طلبات «يسري ممدوح؛ رجل الأعمال الشهير، كيف لا تعرفه؟»


هكذا رد النادل على تساؤلي وهو يكف إصبعه الذي يشير تجاه هذا الـ «يسري ممدوح» في ذعر ويضع أمامي كوبًا من الشاي، ويشدد عليّ بنبرة عطوف صارمة قائلاً:


«احذر أن تثير حفيظته!!»


وما الذي يمكن أن يفعله شخص ضعيف مثلي ليثير به حفيظة هذا العتويل؟


يسري ممدوح! ليس له من اسمه نصيب، فلا يبدو عليه يسرٌ، ولا يبدو أن أحدًا يوجه له مدحًا؛ إلا نفاقًا ورياءً وخوفًا واتقاءً لشره.


ابتسمت مستهزئا متهكمًا مستهينًا بتحذير النادل، فأنا آخر شخص يمكن أن يغضب منه أمثال هذا العتويل، فلا أنا أزاحمهم أعمالهم، ولا أنا أطمع في أن أفعل ذلك يومًا، فأنا أعيش على هامش الحياة بإرادتي الحرة المستقلة.


بيد أن العجب يتملكني بشدة من طبيعة هذا الـ «يسري ممدوح» الشهير بالعتويل؛ هو ليس شهيرًا به إلا في رأسي فقط وهذه شهرة كافية بالنسبة لي، ولكن كيف يكون مثل هذا رجل أعمال؟


نظرتُ نحوه نظرةً خاطفة متحاشيًا أن تلتقي عينانا تجنبًا لشره المتطاير في المكان كله، فلم تَـعُـدْ هذه النظرة إليّ إلاّ وهي محملة بأكوام من الأسى وهي تجيب تساؤلي بأن هذا لا يعدو كونه بلطجيًا.


وازدادت حيرتي أكثر من هذه السلاسل الذهبية الملتفة حول عنقه وأعناق حارسيه والمنتهية بجمجمة ميّتٍ فارغة، جمجمة تشبه بشدة عقولهم.


مكان مظلم موحش، أصوات رهيبة تصدر عن شيء خفي، تبث الرعب في نفسي، لم أعد أدري هل ما زلت جالسًا في الكافتيريا أم أنني أمسيت في بئر سحيقة مليئة بالرعب، والخوف، والوحشة، والألم؟


صرخت صرخة عظيمة، لكنها لم تتجاوز حلقي، بدوت كأنني سأسلم الروح، انزويت في ركن هذا البئر، تتساقط فوقي بعض القطرات، لا أدري أهي ماء أم سائل آخر؟


شخصت عيناي في الظلام حتى لمعت كأنها سيف يتقلب في ضوء الشمس، وجدتني أقول: «إنه ماءٌ يغلي، أنقذني.»


تعالى صوتي وأخذت أبكي، فنظر لي كل من في الكافتيريا بتعجب، إلا واحدًا منهم، قام من فوره وتبعه الحارسان، أمسك بتلابيبي، ونظر في عينيّ نظرةً طويلةً متفحصة مخيفة، ثم نطق وكأن صوته حجارة تسقط من جبل: «من أنت؟»


نظرت له مذعورًا وهو يمكسني بعنف وغلظة وأنا أحاول أن أجيبه فلا يجسر صوتي على مفارقة حلقي، ولا تجرؤ أحبالي الصوتية على الاهتزاز حتّى.


وفي الحقيقة فإنني لم أكن أعرف نفسي حتى أعرِّفه بنفسي، إن هذا السؤال تحديدًا هو سبب حيرتي، بل إنني لا أدري أبشر أنا أم أنني شيء آخر، ولا أعلم أموجود أنا أم لا؟


نظرت إليه نظرة مستنكرة، شعرت بعدها ببعض الثقة تتسرب إلى خلاياي، فبددت خوفي سريعًا، وانقلب ذعري ثقة لأجد في نفسي القدرة ولأول مرة على أن أتحدى أحدًا، فأحدّق في عينيه بتحدٍ، وشعرت كأنني سأذوب في يديه، ويبدو أن التحدي والثقة وحدهما لا يكفيان لمجابهة هذه الصخرة الناطقة، شهقت بقوة وصرخت فيه: «سأذوب»


لم تكد هذه الكلمة تفارق فمي المكلوم إلا ووجدت شفتي يسري العتويل تلتصقان في عنف، وسمعت صوت أسنانه تصطك ببعضها، فأصبحت في يده كأنني لقمة سائغة يوشك على قضمها وابتلاعها وهضمها بدون أي مشقة.


وبدلًا من أن يأكلني، وهو يقدر على ذلك، تكّلم بلهجة تهديدية توعدية قائلًا بكل القوة والعنف: «انهض واتبعني في صمت»


 تمنيت لو أنه أكلني لكان خيرًا لي، على الأقل سأجد مأوى يواري جسدي في هذه البطن المنتفخة والكرش الدائري الذي يسع من الحبايب أو الحبوب أو الخراف والبقر والأغنام ألوفًا.


لم أقاوم ومشيت خلفه مسلوب الإرادة، يا لها من نهاية تعسة.


كنت أود لو انتهيت، لكن لم أكن أظن أن تكون نهايتي بهذا السوء وبهذه السرعة، ما هذا الحظ العاثر، يوم أفكر في الخروج إلى الحياة ومواجهة الأحداث، وأختار مكانًا قريبًا من بيتي وكافتيريا هادئة مطمئنة، إذا بي أقع فريسة في يد عتويلٍ كهذا، كأن القدر ساقه إليّ، وكأن أفكاري ساقتني إليه.


ركبت معهم السيارة صامتًا مستسلمًا لا أعرف ما الذنب الذي اقترفته.


وهناك في مكان على أطراف المدينة، مظلمٍ موحش، أدخلوني فيلا بـثّت في نفسي مشاعرَ كئيبة، وأفكارٌ سوداوية تلاطمت في عقلي.


فيلاّ مقبضة، جدرانها مزركشة ومزخرفة، وإضاءاتها عالية كأنهم لا يدفعون مقابل للكهرباء، ورغم كل هذه الألوان المبهجة والإضاءات الممتعة؛ فإن الكآبة هي الشعور الوحيد الذي يسيطر عليك عندما تدخل أول قدم من قدميك إن كنت من ذوي الاثنين، أو من أقدامك إن كنت من ذوي الأربع، أو بطنك حتى إن كنت زاحفًا، أعتقد أن شعور الكآبة هذا يلازم كل من يدخل إلى هذه الفيلاّ حيوانًا أو حشرةً أو إنسانًا.


فما بالك إذا كنت تدخلها محمولًا على أعناق بهيمتين سمينتي اللحم شديدتي البأس، ويقودهما بغل متضخم العضلات، دميم المنظر، ضامر الضمير، مضمر الشر، وما شعورك عندما يلقيانك على الأرض ويستدير إليك هذا العتويل ويصرخ فيك بصوت كأنه خوار سائلًا: «كيف عرفت كل هذا؟»


كيف شعورك وهذا السؤال ينطلق صوبك من فمه مثل طلقة قناص تعرف طريقها جيدًا، فتتلجلج وتتهته كفريسة تحاول الافلات من صيادها الماهر، وقبل أن ترد على سؤاله يتبعه بنداء أخير للسانك قبل أن يقلع من مطار الكذب، كأنه يحذرك من أن تراوغ ويكررها في وجهك مرة أخرى كأنه يفتح في وجهك مدفعًا رشاشًا:


«كيف عرفت كل هذا أيها الأحمق؟»


لا أخفيك سرًا لقد التقمت هذه الـسُـبّة ومضغتها وهضمتها، فليس لهذه الكلمة من سبيل سوى جهازي الهضمي، حفاظًا على بقية جسدي، فأنا الآن أقف أمام قاتل بلا قلب.


ألقاه في بئر سحيقة وصبّ عليه الماء المغلي صبًا، لم يعبأ بصرخاته وتوسلاته إليه أن ينقذه.


سردتُ هذه الذكريات البغيضة التي رأيتها على مسامعهم، وكلي يقين أن مصيري سيكون كهذه الذكرى المشؤومة التي فرّت من ذاكرة صاحبها العتويل لتطارد شخصًا بائسًا مثلي، شخصًا مبتلى بأشد أنواع الابتلاءات، وأشدها على الإطلاق أنه كلما التقى بإنسان تسربت إلى رأسه ذكريات ذلك الإنسان، ولكن هذه المرة لم تتسرب ذكريات إنسان إنما كائن آخر.


كائن باطش، مؤذٍ، لا يرحم، ولا يعرف الشفقة، وليس في قلبه مكان للعطف، أو الحنان.


عن أي حنان أتحدث؟ إن كل ما رأيته من ذكرياته ليس إلا قتلًا وتدميرًا.


هذا العتويل نموذج مجسم أمام عيني للوجه الآخر لطفل تم تربيته على يد ببجي وفورت نايت وأشباههما.


فأنا الوجه الأول البائس الحزين المكتئب المنزوي الخائف المرتعب؛ وهو الوجه الآخر بعنفه وصلفه وغروره وغشمه ودماره وقتله وخرابه.


وها أنا بين يديه، يا لها من مبارزة ممتعة، طرفا النقيض وجهًا لوجه.


لا بد لواحد منّا أن يبقى ويفنى الآخر، لا بد أن يقضي أحدنا على الآخر حتى تنتهي اللعبة الخبيثة بنهايتها الأخبث المعدة سلفًا.


ولكن من ينتصر هذه المرة أنا أم هو، الضعيف أم القوي، الخائف أم الجريء، الخير أم الشر؟


اعذرني لأنني أرى نفسي الخير، وهذه طبيعة الأمور وطبائع البشر، كل واحد يرى أنه على حق والآخرون في ضلال، ولكنني لست منحازًا لنفسي ولا مجاملًا لي، بل أنا الذي أملك الحقيقة المطلقة، بهذا أعتقد ولن يتغير هذا الاعتقاد مطلقًا، وما يحزنني أنني رغم امتلاكي للحق والحقيقة فأنا أضعف من أن أواجه بهما العالم أو أنشرهما فيه، وأكتفي بأن أكون أحد اثنين؛ إما منكمشًا منعزلًا عن العالم، أو ضعيفًا مستضعفًا خاضعًا ذليلًا، كأنني غثاء سيل.


واليوم أقف في مواجهة هذا العتويل وبات عندي يقين أن مصيري إلى الهلاك، سأنحدر الآن بطريقة بشعة، إلى الهاوية، إن لم يكن لي ردة فعل.


ضحك يسري العتويل بسخرية لا نظير لها فحسبته قرأ أفكاري، أو استمع لصوت نفسي.


ضحك ونظر إلى حارسيه اللذين يبدوان بُلهاء برغم قوة بنيتهما الجسدية، وقال لهما في عنف وهو يقبض على رقبتي:


«لقد قتلته»


اتسعت حدقتا عيناي وتنافر جفناي، هل يقصد أنه قتلني أنا أم قتل آخر؟ ما هذا هل أنا غبي لهذه الدرجة؟ إنني ما زلت حيًا كما أنا، ومن قال إنني كنت حيًا من قبل؟ ليس وقت فلسفة، إنني أكاد أن أفارق الحياة الآن، لا بد أن أفعل شيئًا، وأي حياة وهل كانت عندي حياة من قبل لأفارقها اليوم؟


ليفعل ما يشاء، لن أقاوم، سأموت بهدوء ولن أحدث جلبة حتى لا أزعج هذا العتويل، فلا أريد أن أسبب ضيقًا لأحد في آخر لحظات حياتي، مرة أخرى حياتي، أين حياتك أيها الغبي؟!


انهض وقاوم، لم يكن لك حياة من قبل، الحياة ستأتي بعد، ستأتي الحياة وتستمر وتدوم طويلًا، إلى الأبد، انهض وقاوم.


لولا أن يسري العتويل أفلت رقبتي من يديه لقمت وقاومت، ولكن ليس له نصيب في أن يواجه عاصفتي وغضبي الساطع.


وقف العتويل يهتف بعنف وسخرية كأنه في مظاهرة من أجل إنقاذ البطة الأخيرة على كوكب الأرض:


«لقد قتلته، ومستعد لقتل أي واحد منكم أنتم الثلاثة.»


نظر الحارسان لبعضهما مذعورين، ورحت أنا أتحسس رقبتي لأتأكد أنها مازالت موجودة فوق هذا الجسد البائس، ثم انفعلتُ انفعالًا شديدًا وحدجت يسري بنظرة قوية، ما لبثتْ أن استنعجَتْ وعادتْ لوضع السكون والانبطاح، فتكلمتُ بأقوى نبرة صوت مؤدبةٍ عندي وسألته:


«وما شأني أنا؟»


نظر لي يسري العتويل نظرات ملتهبة يتطاير الشرر منها، فوضعت ذراعي أمام وجهي اتقاء غضبه فقال بخشونة وحزم:


«لقد أصبحت واحدًا منّا، من اليوم فصاعدًا أنت أحد رجالي، وعليك تنفيذ أوامري وإلا ستلقى المصير نفسه الذي رأيته في أحلامك هذه»


ثم توجه بالحديث لحارسيه يكلمهما عني ويخبرهما أنني موهوب، وأنني سأفيدهم جدًا، وأنني أستطيع رؤية الماضي، وأنهم بحاجة إلى جهودي، وأمرهما في النهاية أنني إذا خالفت الأوامر فعليهما أن يتخلّصا مني على الفور ومن دون الرجوع إليه.


ما هذا الحظ؟ أخرج من قوقعتي في هذا اليوم بالذات لأساعد الناس وأفيدهم كما تفعل الشمس لينتهي بي المطاف مساعدًا لمجرم عتيد الإجرام، وبدون رغبة مني ولا إرادة ولا اختيار، بالإكراه، وإذا تمردت عليه يكون مصيري القتل، ودون أن يُصدر هو قرارًا بذلك، فقط أعطاهما صكًا مختومًا على بياض، وهما غبيان للدرجة التي يمكن أن يفتكا بي لو لم أناولهما كوبًا من الماء، يبدو أنني سأعمل عنده نضورجيا لماضي خصومه كما يريد مني، وفي أوقات فراغي سأعمل عند هذين الاثنين كإنسان آلي أناولهما طلباتهما وأنفذ لهما أحلامهما.


مالَ العتويل برأسه نحوي مقتربًا من أذني حتى كاد يعضها وهو يقول لي بخبث:


«صحيح أنك موهوب في قراءة الماضي ولكن بعض التفاصيل تفوتك، فلست أنا القاتل بيدي، ولكنهما هما الفاعلان، والمقتول هو مساعدي الثالث الذي حللت أنت مكانه الآن، لقد فكّر أن يفارقني ويعود لحياته الطبيعية، يتزوج وينجب ويموت، فقصّرت عليه المسافات، وجعلتهما يبعثانه للموت مباشرة، احذر مصيره»


انتصب يسري واقفًا، وقال لي بلهجة آمرة:


«والآن ستنفّذ كل ما أقوله لك بدون نقاش أو تردد، وعاقبة التردد الموت. اسمع جيدًا لديّ مهمة أخيرة أنفذها هنا، ويبدو أنك ستكون السبب في تمكيني من إتمامها، فحياتي أنا الآخر رهينة بإنجاز هذه المهمة.»


ثم جلس إلى جواري متوددًا وبدأ يشرح بلهجة ودية قائلًا:


«توجد خريطة أثرية تتضمن معلومات خطيرة عن كشف أثري فريد، هذه الخريطة اكتشفت أول أمس بواسطة عالم الآثار الشهير فؤاد الحداد، والمفترض أنها بحوزته أو هو الوحيد الذي يعرف مكانها.»


قاطعته؛ فقد جرّأني ودُّه على مقاطعته وسؤاله ببعض الشجاعة المفتعلة:


«وما دوري أنا؟ ماذا تريدني أن أفعل إذا كنت تعرف مكان الخريطة ومن يحوزها؟»


أجابني بأنه لا يعرف مكانها، وأن كل ما يعرفه هو مكان فؤاد الحداد فقط، وأن هذين الغبيان أرسلاه للمستشفى.


«صدماه بالسيارة وهو خارج من البنك الذي تعمل فيه يا ناروز»


ناروز! كيف عرف اسمي؟


البنك! كيف عرف وظيفتي؟


هل أصبحت شهيرًا لهذه الدرجة؟ إنني لا أعرفني حتى يعرفني الناس، وإنْ عرفني أحدهم فلا يمكن أن يكون هذا الكائن واحدًا ممن يعرفونني، لم أجسر على أن أسأله عن كيفية معرفته اسمي ووظيفتي، واكتفيت بهز رأسي في رتابة لأشعره بالاطمئنان وبأنني أتابع حديثه باهتمام.


«صدماه بالسيارة ونزلا يفتشان جيوبه أمام المارة زاعمين أنهما يبحثان فيها عن هويته ليبلغا أهله بالحادث، وبالطبع لم يجدا شيئًا في سترته، هذان الغبيان كانا يظنان أنه سيحتفظ بالخريطة معه وهو يسير بالشوارع، وبدلًا من أن يجلبا لي منه الخريطة جلبا لي المتاعب، ولك أنت أيضًا»


قاطعته مستغربًا:


«ولي؟ وما شأني بهذا؟ أقصد كيف يمكنني أن أساعدك؟»


أجابني بأن موهبتي الجميلة جاءت له في الوقت المناسب، لقد فقد الدكتور فؤاد الحداد ذاكرته، ودوري الآن أن أتعرف إليه وأتقرب منه وأقرأ ماضيه وذكرياته حتى أعرف أين توجد الخريطة وأخبره بمكانها وأقبض مليون دولار.


أخفيت انزعاجي من لهجته المقززة التي نطق بها الكلمة الأخيرة، والتي أشعرتني بأنه يعاملني كشخص بائس فقير له سعر يباع به ويشترى، ولكنني قلت له بسعادة زائفة:


«كنت أتمنى أن يكون هذا المبلغ من نصيبي ولكن الأمر ليس بيدي، فأنت تقول إنه فقد الذاكرة فكيف سأقرأ محتويات ذاكرته هذه إذا كانت قد فُقدت؟»


«سؤال ذكي وتهرب أذكى، يبدو أنك نسيت أن عاقبة التردد الموت؛ فما بالك بالمراوغة؟»


ارتبكت وأحسست بالتوتر يغزو مفاصلي، فسألني العتويل في ثورة:


«وكيف عرفت ذكرياتي التي كنت أنا ناسيها؟»


«ولكنها موجودة أما ذكريات الدكتور فؤاد مفقودة»


«ناروز!!»


صاح يسري باسمي الذي كدت أنساه في غضب وعنف فارتج جسدي كله وتصلبت أعضائي، وانغلقت عيناي تأهبًا لضربة تهوي على رأسي، لكن لكمة يسري ارتطمت عمدًا بذراع الكرسي فكسرته، وفتحت عيني ببطء فهالني المنظر، وأدركت أنني فأر في مصيدة محكمة، ولا فكاك منها إلا بالإذعان لأوامره، وربما لا فكاك منها أبدًا، فقلت بصوت مرتجف متشبع بالاستسلام وبلهجة يبرز الصدق منها:


«صدقني لست أعرف كيف أدخل إلى الذكريات، على الأقل حتى الآن، فلقد اعتدت أنها هي التي تطاردني، ولكنني سأحاول جاهدًا أن أعرف مكان هذه الخريطة، وأية معلومة تظهر لي سأبلغك بها، ولكن أرجوك دعني ولا تلاحقني حتى أتمكن من ذلك.»


«موافق، سأتركك أسبوعًا تتعرف إليه، وتبلغني بالنتيجة، ولكن أية مخالفة لهذا الاتفاق ستدفع ثمنها فورًا، ولا تظن أنك بعيد عني.»


هـززت رأسي متفهمًا ومحاولًا أن أبدو كأحد رجاله البلهاء، ثم غادرت الفيلاّ في هدوء كأنني أفيق من حلم، وتهاديت في الطريق، والأراضي المنزرعة تحيط بي، وعبق الفاكهة يزكم أنفي، فالتقطّ مخي هذا العبق وفسره على أنه رائحة كريهة بغيضة كبغضي للفيلا وساكنيها.


شرفتي كما هي لم تتغير ماكثة في مكانها تنتظرني، ولكنني أنا الذي تغيرت.


العودة إلى الفصل السابق: (الثالث)

الانتقال إلى الفصل التالي: (الخامس)



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top