رواية – قارئ الذكريات – الفصل السادس


بعد أن غادرت المستشفى اليوم؛ وهو اليوم قبل الأخير من المهلة، شعرت أنني مسجون، في الحقيقة لست في السجن، لست محاطًا بأسوار وحراس.


ولكنني أشعر أنني نزيل عنبر الجبناء، سجين في البنك أثناء أوقات العمل الرسمية، سجين في المستشفى في أوقات الزيارات اليومية، سجين في البيت في ساعات الوحدة المسائية، سجين في كل الأوقات كلما تذكرت يسري ممدوح وما يعتزم فعله معي، سجين في نفسي وفي أفكاري وفي علاقاتي وعواطفي ورغباتي، مقيد مكبل.


وللمرة الأولى أفهم وأستشعر معنى تصريح سعيد صالح الذي سمعته يومًا في إحدى لقاءاته التلفزيونية القديمة وهو يقول إنه قبل أن يخرج من السجن بعشر أيام اكتأب، وعندما سألته المذيعة عن السبب قال بتلقائيته المعهودة: «قلت لهم برة أعمل إيه ما أنا هنا عارف ده عنبر قتالين القتلى وده عنبر المخدرات وده عنبر الأموال العامة وده عنبر الآداب عارف كل مجرم إنما بره أنا مش عارف مين المجرم كلهم شبه بعض»


وهذا هو عين المأزق الذي أنا فيه الآن، لا أعرف من المجرم ومن البريء، من المزيف ومن الحقيقي؛ كأن نظام الويندوز الخاص بي أصابه فيروس منعه من التمييز.


منذ التقيت بيسري ممدوح وأنا على هذه الحال من الشك في كل شخص أقابله، ما الذي يمنع أن يكون الطبيب الذي أبلغهم بحقيقة حالة فؤاد الحداد أحد رجال يسري ممدوح؟ ما المانع أن يكون كذلك؟ بل هو كذلك وأنا على ثقة تامة من ذلك، كيف أميز بين المجرمين وغيرهم؟ كلهم يشبه بعضهم بعضًا.


يسري هذا نفسه عندما تراه لا يمكنك أن تشك أن هذا مجرمًا وطليقًا ويعيث في الأرض فسادًا، منظره كمنظر رجل الأعمال بهيئته وهيبته وأمواله المتناثرة في كل مكان يحل فيه، والحراس الشخصيين الذي يحرسونه طيلة الوقت.


هو نجم في نهار الحياة لامع مهندم براق منظم، أما في ليلها فهو معتم شاحب قاتل سارق غشاش مخادع.


له ضحايا كثيرون، ليس مساعده السابق الذي قتله أولهم، ولن أكون أنا آخرهم.


فمثل هذا يمارس الإجرام بالسليقة، بالطبيعة، كالأكل والشرب، يتخلص من الإنسان كما يطبخ الجمبري، أو يستعمله كطُعمٍ لغيره كما يستعمل الجمبري؛ في الحالتين لا يعنيه الجمبري في شيء، ولا تهمه حياة الجمبري، ولا أسرة الجمبري، ولا أهمية الجمبري لبقية الجمبري، هو يبحث عن نفسه وفقط.


وإذا كان الجمبري قد خلق لتكون نهايته بيد إنسان يطبخه أو يصطاد به؛ فإن الإنسان لم يُخلق ليكون طُعمًا ولا غذاءً لإنسان مثله.


كيف أميز يسري هذا من بين بقية رجال الأعمال الصالحين المجتهدين؟ صعبٌ عليّ وعلى غيري، ولذلك فإنني فريسة سهلة لأمثال يسري من المجرمين.


وإن لم أقع ضحية ليسري ممدوح في جبروته وإجرامه؛ فلابد أنني كنت سأقع في شراك «مستريح» يبني شركته على أحلام الآخرين وطموحاتهم وتطلعاتهم، يجمع أموالهم بحجة توظيفها لهم وإدرار الربح عليهم كالطوفان، وهم تحت وطأة الدعاية التي يتقنها، والخطة المحكمة التي ينفذها، والأرباح البراقة التي يبرزها لهم، ويعطيها لهم في البداية، تحت وطأة هذا كله يقعون ضحيةً له، ويعطونه كل ما لديهم من أموال، ليستثمروها لديه بأرباح مضاعفة.


ثم يفيقون في يومٍ من الأيام على خبر هروب هذا المستريح، ليكتشفوا أنه استراح على قفاهم بعد أن صفعهم عليه وولى هاربًا إلى غير رجعة.


وقد أفلتُّ من براثن هذا المستريح مرات ومرات بسبب سلبيتي وإحجامي عن المجازفة والمخاطرة، وكلما نظرت في وجوه المضحوك عليهم منه أدركتُ أن لسلبيتي مزايا كما لها عيوب.


وبعد أن أفلتُّ من «المستريحين» النصابين البشريين، تلقفني تطبيق إلكتروني أو بتعبير أدق «مستريح إلكتروني» يحوز على ثقتك ويستغل طمعك ورغبتك في الثراء السريع، يوهمك باستثمار أموالك من خلال التطبيق مقابل فوائد ضخمة.


وبعد أن تتمادى معه تفيق في صبيحة يوم من الأيام لتجد التطبيق قد أغلق واختفى وأصبح وهمًا، وضاعت أموالك، فإما أن تستدين، وإما أن تموت، وإما أن تنتهي حياتك الزوجية، أو تقعد على فراش المرض غير مأسوف عليك، أو تعود كأعمى البصيرة إلى تطبيق جديد تلقي إليه بأموالك، وهكذا تدور عجلة النصب وهكذا تكون ترسًا فيها برضاك أو بغيره.


وقد فشل هذا التطبيق أيضًا في إقناعي بأن أشتري آلات تعدين وأن أضخ أموالي فيه، رغم أنه لا يحتاج لمجهود مني ولا يحتاج لإيجابية بل كان متناسبًا مع سلبيتي وكسلي، فبضغطة زر أستثمر فيه، ولكن رغم ذلك لم أسقط في شباكه.


كل هؤلاء النصابين لا يعلقون على صدورهم، أو على مكاتبهم، أو على شركاتهم، لافتات مدونًا عليها النصاب فلان، فكيف لي أن أكتشفهم؟


لولا سلبيتي لسقطت في أيديهم، ألم يكن سعيد صالح على حق في قوله: «…بره أنا مش عارف مين المجرم كلهم شبه بعض».


وهذا هو أحد أهم أسباب السجن الاختياري الذي فرضته على نفسي، فلا أنا أخرج من بيتي، ولا أنا أقبل بأي معاملة جديدة غريبة إلا بعد دراسة عميقة، ووقت فراغي يسمح لي بذلك، وقلة طموحي في الحياة وأموالها تتيح لي ذلك.


أما الكائنات البشرية اللاهثة وراء الثروة، أو من يناضلون منهم من أجل لقمة العيش، فلا يوجد ما يحميهم من هؤلاء النصابين، إنهم حتى إن أفلتوا من هذين الشركين لابد أن يقعوا في شراك نصاب آخر.


نصاب البنوك الغبي الذي تلقيت رسالة منه ذات يوم على هاتفي تطالبني بضرورة تحديث بيانات حسابي البنكي، ولما اتصلت به طلب مني رقم الفيزا والرقم القومي، وأضفى على نفسه الشرعية بأن انتسب إلى البنك المركزي، وسايرته قليلًا رغم أنه جاء ليبيع الماء في حارة السقائين، سايرته حتى اطمأن لغبائي المفتعل.


وعندما بدأت أسجل المكالمة ونظرًا لأن هاتفي أمين فقد أبلغه بأنه يجري الآن تسجيل المكالمة فأغلق الهاتف بهدوء بعد أن قال بنبرة رسمية: «غير مسموح لك بتسجيل المكالمة يا أفندم، هذا مخالف لتعليمات البنك المركزي، عندما تكفُّ عن تسجيل المكالمة سأتواصل معك».


يا لك من نصاب مستفز‼ أما زلت مصرًا على النصب عليّ حتى بعد أن علمت أنني أسجل مكالمتك؟ من أين لك بهذه الثقة في قدرتك على النصب والخداع؟ هل استمددتها من كثرة الضحايا الذين أعطوك بياناتهم وأفاقوا على حساباتهم البنكية فارغة من أي رصيد بعد أن سحبته أنت كله وتركتهم لحسرتهم؟


والآخر الذي وجد قطعة آثار ويريدني أن أتصرف له فيها، والآخر، والآخر، والآخر؛ كل هؤلاء وأكثر.


ورغم بغضي لكل هؤلاء إلا أنني الآن أتمنى لو وقعت فريسة لأحدهم خير من أن أواجه ذلك المجرم، وتواجهه معي غدير، ونحن بلا أي حيلة، ولا قدرة على المواجهة، ولا نعرف ما الذي ينبغي علينا فعله في مثل هذا الموقف.


ولكن لم يعد لنا من مهرب، سنواجه مهما كانت العواقب، ومهما كان الثمن، فلا أنا سأخسر شيئًا، ولا غدير لديها ما تخسره.


فوالدها وقد خسرته بالفعل، إذ بات قعيد الفراش رهين المرض، ميت قبل أن يموت.


وحبيبها الذي هو أنا وستخسره في كل الأحوال سواء واجهنا أو لم نواجه، ولذلك فلم يعد لديها ما تخسره.


قررنا أن نواجه يسري ورجاله ونتحرك نحن نحوهم، ولا ننتظر حتى يأتوا هم إلينا، درسنا الأمر من كل الوجوه، وقررنا أن أذهب وحدي إلى تلك الفيلاّ البغيضة وليكن ما يكون.


سأذهب بمفردي ولابد أن تنساني هي وكأنها ما التقتني يومًا.


واقتنعتْ هي رغمًا عنها بذلك، وقبلتْ به على مضض، فلا يوجد حل آخر؛ أضيع وحدي وتبقى هي وأبوها على قيد الحياة وينجوان من هذه المكيدة.


«لا توجد خريطة» سأعلنها في وجه يسري، «ولا ذاكرة لدى فؤاد الحداد، ولو كانت موجودة فلن أقرأها، ولو قرأتها فلن أدلك على ما فيها، وها أنا واقف أمامك فافعل بي ما تريد».


سأقف في وجهه كالصخرة، لن أتراجع؛ ليس من أجلي فحسب، ولكن من أجل غدير أيضًا.


صحيح أنني في المرات الفائتة كنت أتقهقر وأتراجع إلا أن هذه المرة مختلفة، سأصمد من أجلها، ومن أجل أبيها، ومن أجل كرامتي، اليوم أنا شخص جديد.


وقفت أمام يسري ممدوح بكل جسارة، وأعلنت أمامه ما رتبته في ذهني بكل قوة، وانصدم مما أقول، وانصدم أكثر من الطريقة الجريئة التي أتحدث بها، وحدث ما توقعته انهال عليّ ضربًا وسبًا هو ورجاله، لم أتأثر، لم أتأثر بأي ضرب فعليًا، كأن ضرباتهم لا تصيبني، أو كأنني مصنوع من مادة لا تتأثر بهذه اللكمات التافهة، أو كأن صلابة إرادتي جرت في كل جسدي.


فجأة توقف عن الضرب وأمر رجاله بالتوقف، واستلّ نَفَسًا عميقًا يستريح به من المجهود الجبار الذي بذله في ضربي، وجلس على الكرسي كأنه صخرة تسقط في الماء، ونظر إليّ.


ولأول مرة أقرأ في نظراته لي فزعًا لم أجد له مبررًا؛ هل أصابه كلامي بالذعر لهذه الدرجة؟ أم هو على وشك الدخول في نوبة قلبية حادة؟


نفث أنفاسه المختلطة بالغضب والخوف الغريب، وتحدث إليّ بلهجة حانية غير معتادة من مثله، ولا منتظرة منه مع كائن ضعيف مثلي، وقال:


«سأسامحك على ما مضى ولكن عليك أن تتعاون معي فيما هو قادم وإلا …».


قال الــ إلاّ وسكت، لم يكمل ما بعد الــ إلاّ فلم أعرف أهو يهددني ويبالغ في تهديدي بإخفاء الجزاء الذي سينالني إن لم أستجب له؟ أم أنه لا يجد ما يهدد به؟ أم أنه أدرك أنه لم يعد يوجد شيء يخيفني؟


ما الذي غيّرك أيها العتويل وأقعدك تتفاوض مع ضعيف مثلي؟


هل يُعقل أن المطلوب مني لم يكن سوى اتخاذ خطوة واحدة نحو المواجهة وحينها ينهار يسري أمامي بهذه البساطة؟


هل لمجرد أنني صمدت أمامه وأمام ركلاته وضربات رجاله لبضع دقائق فَقَدَ الأمل في أن يحصل مني على أي شيء بالإكراه، هل يعقل هذا؟


هل الخوف خائف بالفعل مثلما يقولون يهرب ممن يقتحم عليه معاقله؟


هل الشجاعة كما يقولون ليست ألا تخاف بل ألا تتصرف بناءً على خوفك؟


ليس المهم أن تخاف أو لا تخاف المهم ماذا يدفعك خوفك لتفعل؟


«ما الذي غيّرك يا يسري؟ ماذا جرى لك أيها العتويل؟»


سألته السؤالين الأخيرين وأنا أُجلِسُ نفسي على الكرسي المقابل له متخذًا وضع الواثق في نفسه لأبعد حد.


وكأنني لم أكن مكوّمًا على الأرض أتلقى الضربات منذ لحظات، وكأنني لا أرتعد من داخلي خوفًا، وكأنّ هذه النبرة المتحدية التي أتحدث بها هي نبرة حقيقية نابعة من داخلي وليست مفتعلة لإيهامه ورجاله أنني بخير وأنهم مهما يفعلون بي فلن ينالوا مني ما يريدون، وأنني جئت إليهم وخلعت الحياة على باب الفيلاّ البغيضة.


«لا أريد حياتي، ولا أريدك يا يسري، لا أنت ولا هؤلاء الأغبياء، هل ظننت أن الضرب والتخويف سيجدي معي؟ أنت واهم»


قاطعني يسري مشهرًا ذراعه في وجهه بعنف وغيظ وصرخ: «كفى»


احتقن وجهه أكثر وهو يضغط على نفسه ليقبل بالوضع الجديد ويسألني عن طلباتي حتى أتعاون معه وأقدم له الخريطة الأثرية، وظل يعدني بنعيم ويمنيني بأموال لا أستطيع لها عدًّا ولا أذكر أرقامها الغريبة على سمعي.


ما هذا الفخ الجديد الذي ينصب لي؟ وماذا أنا فاعل؟ هل أضحّي بغدير ووالدها؟ هل أبيعهما وأبيع نفسي؟ ماذا عساي أن أفعل؟


أعتقد أنني لم أعد قادرًا على قبول المواءمات، لم يعد لدي متسع من الصبر للتفاوض مع هذا الحقير.


رفضت كل محاولاته وإغراءاته، وكررها هو مرات ومرات دون كلل أو ملل، ولما يئس مني نهض واقفا بعنف وهو يقول لي بتوعّد:


«أنت الذي جنيت على نفسك»


تهكمت وسخرت وتطاولت وسببت وشتمت، وفعلت كل ما نما إلى قاموس الشر عندي من أفعال.


 


 «لا شيء أخسره فافعل ما لديك، ماذا ستفعل؟ هل ستقتلني؟ اقتلني كما تشاء. أرى أن الخيارات أمامك محدودة فإما أن تقتلني أو أن تتركني وشأني وأتركك وشأنك.»


«تتركني وشأني!!» بصوت بطيء رددها يسري.


«سأتركك وشأنك ولكن ماذا عن حبيبتك غدير وشأنها؟»


كيف عرف هذا الوقح أن غدير حبيبتي؟ يبدو أن ذلك الطبيب لم يكن معذورًا، يبدو أنه ما كان إلا جاسوسًا مدسوسًا علينا.


ماذا سيفعل هذا الشيطان مع غدير؟ لو قتلني قبلها فلا مانع عندي ولا مشكلة.


المشكلة لو تركني وقتلها، كيف سأسامح نفسي على ما سببته لها؟ ألم أكن قادرًا على اتقاء شره وتنفيذ أوامره بدلًا من تعريضها لغضبه وانتقامه؟


إنه يراقبني في صمت ينتظر ليرى ردي، لو أظهرت له أنني خائف عليها، ستكون نقطة ضعف بالنسبة لي، ولو أظهرت أنني غير مكترث بها فلا أضمن ألا ينفذ تهديده.


«اذهب بموتك إليها فهي في انتظارك»


قلتها بقوة لا تنبئ عن ترددي في قولها، قلتها مستندًا إلى الاتفاق الذي أبرمته معها قبل أن آتي للمواجهة.


لم أتوقع أثر كلماتي القوية هذه على يسري، ظننته سيغضب، سيسب، سيضرب، سيفعل أي شيء إلا أن يضحك بارتياح، لم أتوقع هذا منه، ولم أفهمه إلا وضحكاته تختلط بتساؤل مسموم:


«أيها الغبي هل تظن أن غدير تحبك؟ هل تعتقد أنها تحب شخصًا ضعيفًا جبانًا مثلك؟»


ماذا يقول هذا المخرف؟ هل يريد أن يوقع بيني وبين غدير العداوة والبغضاء؟ هل يريد أن يفرق بيننا ليسود هو، وينتصر هو، ويبقى هو؟ هل يريد أن يضرب بعضنا ببعض فيصل إلى هدفه بينما يجلس على الأريكة مستمتعًا بمشاهدتنا ونحن يقضي بعضنا على بعض، ويفني بعضنا بعضًا؟ تمامًا مثلما يفعل النظام العالمي الجديد مع الدول العربية.


ما هذا الهراء الذي يبثه في نفسي؟ ولماذا أستمع له؟ لماذا أعطيه الفرصة ليشكك في حب عمري؟ أي عُمْر؟!! إنني لم ألتقها إلا من أيام.


إنها لمصيبة إن كان محقًا فيما يقول؛ إنها لكارثة. إنني إذن غبي وغبي جدًا.


لقد نجح هذا الأحمق في أن يشككني في نفسي وفي محبوبتي وفي قدراتي، هل أراد أن يعود بي إلى نقطة الصفر مجددًا؟ هل أراد أن يسلبني القوة التي تحليت بها اليوم؟ هل يريد أن يعيدني لحالتي الأولى من الوهن والخور والضعف والانهزام النفسي؟ أتراه يريد أن يحطمني معنويًا؟


دخلت غدير إلى الفيلا تمشي تحت الضوء الخافت الباهت المخيف المقزز، الضوء الذي تسرب ليطعنني في ذكائي، ليطعنني في قدراتي، ليزيد إحباطاتي وآلامي وأوجاعي.


دخلت غدير إلى الفيلا ونبأ وصولها تلقيته من لسان هذا الشخص البغيض، الذي اتفقت أنا وهي على ألا نستسلم له.


دخلت غدير ولم تنطق، دخلت غدير ومرت بي كأنها طيف كئيب مرّ من أمامي في خُيَلاء، مُطْلِقَةً نحوي سهمًا مسمومًا من ابتسامات مستفزة، ابتسامات حقيرة، ابتسامات خبيثة، تخرج من نفس شيطانية بامتياز مع مرتبة القرف، ابتساماتها وحدها كانت كفيلة بتحطيمي، ابتسامات مخزية عارية من الإنسانية، مالي أتحطم على صخرة أنثى جديدة؟


ألم تَكْفِ ضحى وما فعلته بي؟ ولكن ضحى كانت حقيقة أما غدير هذه فوهم، وأي وهم؟


«من أنتِ أيتها الشيطانة؟ هل أنتِ ابنة ذلك الرجل القابع في المستشفى حقَا؟ هل بعتِ والدك لهؤلاء الأوغاد بهذه السهولة الفجة؟»


لم أسمع غير ضحكات يسري الشريرة الهازئة، وهو يشير ناحيتها قائلًا في سخرية:


«ها هي حبيبتك بنفسها تطلب منك أن تستخرج من والدها ما نريد.»


ضحك مرة أخرى بسماجته نفسها، نظرت نحوها فهزت رأسها موافقة على كلامه.


أطرقتُ إلى الأرض ودارت بي الفيلاّ عدة دورات، كأنني أصبحت ترسًا في عجلة الوهم أو الحقيقة؛ لا أعرف.


ما هذه الذكريات التي قرأتها في رأس غدير؟ هل كانت تخدعني بهذه الذكريات؟ إذن فأي ميزة لديّ إذا كانت موهبتي يمكن مراوغتها بهذه الأساليب البشرية البسيطة؟ وما الذي يمكنني فعله الآن ولمن أنتمي وعمن أدافع؟


وما أدراني أن فؤاد الحداد شخصًا حقيقيًا هو الآخر؟ وما أدراني أنه عالم أصلًا؟ وما أدراني أن يسري ممدوح ليس على حق؟ ما أدراني أنه لا يمثل الجانب الخيّر في الحكاية؟


ألا يمكن أن يكون كل ما أعيش فيه مجرد وهم أو حقائق معكوسة الصالح فيها هو الطالح والعكس؟


ماذا أفعل لأخرج من هذا المأزق الغريب؟


لا بد لي من تغييرٍ كلي في استراتيجية عملي وطريقة تفكيري، لا بد من مراوغة، لا بد من خداع، لا بد من مكيدة، لا بد من التحلي ببعض صفات البشر التي لا أجيدها حتى أتمكن من الخروج من هذه المصيدة ريثما أتوصل لحلٍ كلّي لأزمتي.


وقفت أمام يسري وكأن شيئًا لم يكن، وكأنني لم أرَ غدير؛ وكأنني لم تصبني صدمة، ولا قشعريرة، ولا مرارة، ولا غُصّة؛ وكأنني لا أقاوم حتى يخرج صوتي صحيحًا غير متهدج؛ وكأنني لا أقاوم حتى أقف معتدلًا غير مهزوز ولا مُنْحَنٍ.


وقفت أمام يسري وتحدثت إليه بصلابة:


«سأفعل ما تريد»


هتف يسري بفرحة.


«جيد جدًا، كنت متأكدًا من أنك لن تضيع فرصة كهذه، يا صديقي»


صديقي! الآن أنا صديق لهذا البرميل القذر!!


تركني أنصرف من الفيلاّ بعد أن أهال على ضميري آخر حفنةٍ من تراب الوعود البراقة بتحقيق كل أحلامي.


تركتُه ورحلت، وأنا أعرف ما ينبغي عليّ فعله جيدًا، أو لا أعرف على الإطلاق.


العودة إلى الفصل السابق (الخامس)


الانتقال إلى الفصل التالي (السابع)


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top