زيارةٌ خاطفة إلى المستشفى، تسللٌ إلى داخل أروقتها، وصولٌ إلى غرفة فؤاد الحداد، ما زال هناك قعيد الفراش، أسئلة واستقصاءات عن ابنته، لا أحد يعرفها.
غدير!! لا أحد يتذكرها.
من الذي أخبرك أنها ابنته؟
انصدمت لما تذكرت ما جرى عندما دخلتُ المستشفى أول مرة وتوجهت إلى الاستعلامات لأسأل الموظفة المسئولة، وما فعلتْه غدير وقتها وسط تعجب واستغراب الموظفة، عندما تلقفتني غدير وأخبرتني أنها ابنة فؤاد الحداد.
من الذي قال لي إنها ابنته؟
إنها هي نفسها التي قالت لي، لا أحد غيرها، وهذه بداية الخديعة، وما كان مني إلا أن انجررت وراءها بغير تفكير.
كيف سمحوا لها بأن تبقى معه بالغرفة هكذا؛ وكلما ذهبت وجدتها؟
سألت عن هذه الفتاة وشرحت لهم مواصفاتها.
«إنها قريبته من بعيد وتأتي للاطمئنان عليه كل يومٍ ساعةً من النهار وتمضي.»
ساعة!! أي أنها لا تبقى معه إلا قدر ما أبقى أنا معه، وترحل عندما أرحل، مالي مصدوم وكأن يسري لم يخبرني الحقيقة قبل أن أغادر الفيلا؟
أخبرني ولكنني لم أصدقه، وأكاد لا أصدق أذني، لا بد أن خللًا أصابها فصارت تلتقط كلامًا غير حقيقي.
وعيني التي شاهدتَها هناك تدخل كواحدةٍ من أصحاب الفيلاّ؛ كواحدةٍ من أعوان يسري؟!!
لقد استطاع يسري أن يضرب أكثر من عصفور بحجر؛ تأكّدَ من قدرتي على قراءة الذكريات من خلال ذكريات وهمية افتعلتها غدير في ذاكرتها واستطعتُ قراءتها بالفعل، وكذلك تأكد أن فؤاد الحداد فاقد للذاكرة فعلًا ولا يدعي ذلك للتهرب ممن يلاحقونه، كما عرف كل شيء عني من خلال حكاياتي التي حكيتها لغدير، ناهيك عن أنه زرع عينًا تراقب فؤاد الحداد في المستشفى يوميًا تحت غطاء أنها ابنته أقصد قريبته.
والآن بضربة نفسية واحدة هزمني، أعادني لقاع الحياة مجددًا، كسر إرادتي، عرضني لصدمة جديدة في غدير، صدمة ذبحتني، وطعنتني في مقتل.
كنت أعيش من أجلها، وكنت على وشك أن أموت من أجلها، وبعد كل هذا أكتشف أنها مخادعة، وأنا الذي كنت ألوم نفسي وأؤنبني على خيانتي لها ولأبيها وغدري بهما، فإذا به لا هو أبوها ولا هي ابنته ولا أنا أنا.
والآن ماذا أفعل في هذا الرجل البائس؟
لم يعد إلا الحل الوحيد الذي توصلت إليه، لم يعد أمامي إلا اختطافه من المستشفى.
ولكن كيف أفعل ذلك؟ بل ولماذا؟ لماذا لا أذهب للشرطة فأبلغهم بما يجري وحسب؟
ومن سيصدقك وهذا رجل أعمال شهير ولا يوجد لديك دليل؟
وقف الدليل عقبة أمامي؛ إذن لابد من إيجاد الدليل.
لا يوجد دليل إلا الخريطة الأثرية.
أين يمكن أن تكون؟
تجاوز عداد عقلي السرعة القانونية وهو يعصف بالأفكار باحثًا عن المكان الذي يمكن أن يكون هذا العجوز قد خبّأ فيه تلك الخريطة، وكادت تحدث حوادث كثيرة في عقلي كلما اصطدمت قاطرة تفكيري بأفكار غير منطقية عن مكان الخريطة المحتمل.
بدأ عداد سرعة التفكير يصفر في عقلي من فرط سرعته حتى كأنه وصل إلى سرعة الضوء، وإذا بذكرى طارئة تظهر في طريق التفكير كأنها سيارة مسرعة تأتي من الجهة المقابلة تقلّبُ النور وتوشك أن ترتطم بعقلي، لولا أن ضغطت المكابح لتستقر أمامه قبل الاصطدام بلحظة وتقول بصوت اللزج حسن الدهشان:
«تقصد العجوز الذي أعطاك العصا؟»
«لم يضربنِ يا حسن، أتفهم؟! لم يضربنِ.»
«العصا التي كان يمسكها ولوّح بها في وجهك في غضب.»
لقد بدأت أتذكر هذه الذكرى جيدًا؛ إنه الحوار الذي دار بيني وبين حسن الدهشان في اليوم التالي للقائي بفؤاد الحداد في البنك.
ولكن لماذا تأتيني هذه الذكرى الآن؟ إلى أي شيء تريد أن تقودني؟ إلى شيء تلمح؟ هل بدأ عقلي يهذي من سرعة التفكير الجنونية، ومن كثرة مخالفات السرعة التي حررت له؟
وقفت أمام فؤاد الحداد المسجى على سرير المرض، تأملته كثيرًا وهو نائم في وداعة، بلا قدمين، وبلا أمل.
تذكرت حاله عندما دخل عليّ البنك، لقد كان مريضًا منهكًا، ولكن ليس إلى هذه الدرجة، كان رغم ما فيه يمشي، ولو ببطء شديد، كما كان يمشي محمد صبحي مجسدًا عم أيوب في مسرحية الجوكر وهو يردد عبارته الشهيرة «تعالى لحمو يا حبيبي».
أرى فؤاد الحداد يكاد يقول لي هذه العبارة الآن، وهو يرفع عصاه الغليظة لينهال بها على رأسي.
أتفادى ضربته التي لم يضربها، فتلوح أمام عيني ذكرياته كلها.
تدفقت ذكرياته في رأسي بغتة، هل استعاد فؤاد الحداد ذاكرته الليلة؟
لا يبدو أنه فعلها، ولا يبدو أنه سيفعلها يومًا، إذن من أين جاءت هذه الذكريات؟
لقد انسابت ذكرياته من رأسي أنا؟ نعم من رأسي أنا.
ما هذا؟ هل أنا فؤاد الحداد؟ لست هو وأنا متأكد من ذلك؛ إذن فمن أين جاءت ذكرياته.
لكَمْتُ جبهتي بقبضة يدي حسرةً؛ كيف لم أفطن إلى هذا الأمر من قبل؟
توجد نسخة كاملة من ذكريات فؤاد محفوظة في رأسي، ألم أقرأ ذكرياته من قبل عندما دخل عندي البنك؟ ألم أعرف أن عليه ديونًا؟ ألم أطلع على كل ما جال بذكرياته قبل أن يلتقيني؟
يا لها من مفاجأة جميلة، وإن كانت قد تأخرت بعض الوقت نتيجة لغبائي، أو انشغالي، أو عدم اهتمامي، أو عدم رغبتي في معاونة يسري في السطو على ذكريات هذا العجوز البائس.
عصاه التي رفعها في وجهي ذكرتني بكل شيء، فانسابت ذكرياته من رأسي، حللتها كلها، جعلت أبحث فيها عن الخريطة الأثرية كأنني أبحث عن إبرة في كومة قش.
أخيرًا وجدتها ملقاة في ركام أفكار فؤاد الحداد، أراه محتارًا أين يخفي تلك الخريطة، مرةً يفكر في إخفائها في بيته ويتراجع فهذا هدف سهل، مرةً يقرر أن يعطيها لصديق ويتراجع، مرةً يفكر في دفنها مجددًا حيث وجدها، مرةً يفكر في إيداعها في المتحف ويتراجع لأنها بلا قيمة حتى الآن، ولن تكون لها قيمة إلا بالوصول إلى المكان الذي تدل عليه ومعرفة الكشف الأثري الذي تبين طريقه.
وفي الأخير رأيته وهو يقرر أن يودعها في الخزينة التي استأجرها في البنك.
إذا كان الأمر كذلك فكيف قرأتُ لحظةَ جاءني في البنك أنه يريد تسديد ديونه؟ هل كان يشعر بقرب مصيبة تحل به وأراد أن يضع أوزار الديون عن كاهله؟ أم أنه أراد أن يتخذ من عملية سحب الأموال هذه ستارًا للذهاب إلى البنك في هذا اليوم وبعدها يودع الخريطة في الخزينة.
لا بد من قراءة متأنية لذكريات ذلك العجوز، ولكن لا بد أيضًا من أن أخفي ما توصلت إليه عن يسري.
عدتُ إليه في الفيلاّ البغيضة، رأيت غدير فنظرت إليها باحتقار، وتجاوزتها بإهمال إلى أن وقفت أمام يسري مجددًا.
«إذا كنت تريد مني مساعدة حقيقية فلا بد أن تقول لي الحقيقة»
«أي حقيقة تريدها يا ناروز؟»
«ناروووووز، نعم هذا هو، أريد أن أعرف كيف عرفت اسمي يوم أن اختطفتني من الكافيتريا؟»
وقبل أن يجيب، عاجلته مرددًا عبارةً أخرى قالها يوم اختطافي والآن تذكرتها:
«…هذان الغبيان كانا يظنان أنه سيحتفظ بالخريطة معه وهو يسير بالشوارع، وبدلًا من أن يجلبا لي منه الخريطة جلبا لي المتاعب، ولك أنت أيضًا»
أنهيت إعادة مقولته على مسامعه مرةً أخرى بكلماتها كاملة وبلهجته التي قالها بها وسط دهشته، وقبل أن يغير دفة الحوار سألته:
«كيف جلب هذان الغبيان لي المتاعب؟»
استمع يسري إلى أسئلتي بتوتر، وكأنه يشعر في قرارة نفسه أن أمره قد افتضح، وما عاد هناك من داعٍ للاستمرار في هذا المسلسل العبثي، أكثر من ذلك، وقال بعد برهة باقتضاب بليغ:
«ليست الذكريات هي المستهدفة؛ بل وظيفتك.»
يا لي من أحمق، استدرجني يسري إلى اتجاه قراءة الذكريات، التي يبدو أنه اكتشفها مصادفة، بدلًا من الهدف الحقيقي الذي أراده مني.
إذن هو لم يضرب ولا عصفور بأي حجر، بل تساقطت العصافير تحت قدميه عارضة خدماتها عليه، يا له من مجرم محظوظ!!
هدفه الحقيقي كان وظيفتي بالبنك، وهو الهدف الذي على ما يبدو تطلب منه أن يراقبني لمدة، وهذا ظاهر في اللحظة التي اختارها للانقضاض عليّ في تلك الكافيتريا؛ فهي المرة الأولى التي أغير فيها خط سيري ونمط حياتي، كما أن اختطافي من الكافيتريا أمام أعين الجميع وبدون اعتراضٍ مني أو مقاومة لا يشكل خطرًا عليه، بل لا يُسمّى اختطافًا إلا في قاموسي أنا فقط، فَمَنْ المختطف الذي يسير إلى جوار مختطفيه بهذا الهدوء.
وذلك على عكس اختطافي من شقتي المراقبة بالكاميرات طيلة الوقت، وما يحف بتلك العملية من مخاطر، يبدو أنه لم يكن يريد أن يجلبها لنفسه مبكرًا، أو لم يكن يريد أن يثير الانتباه تجاهه، أو لم يكن يريد أن يربط أحد بينه وبيني وبين فؤاد الحداد زائر البنك العجوز.
أراد بهذه الخديعة أن يعمي نظري عن التعاون الحقيقي الذي يريده مني، ماذا سيستفيد من قارئ الذكريات إذا كانت الذكريات قد مُحيت من ذاكرة الشخص المطلوب قراءة ذكرياته؟
خصوصًا وأنه لا يعلم حتى الآن – ولن أقول له بالطبع – إنني وجدت عندي نسخة من ذكريات فؤاد.
إذن؛ كل ما يريده يسري مني هو خزينة فؤاد الحداد الموجودة بالبنك، ويريدني أن أستخرج منها تلك الخريطة.
اعترف يسري بمراده الحقيقي مني.
«ولماذا لم تقل ذلك من البداية؟»
«ولماذا أقول لك الحقيقة وأنت في كل الأحوال مجبر على تنفيذ أوامري سواء قراءة الذكريات؛ تلك الموهبة العجيبة، أو الوصول لخزينة فؤاد.»
«وما أدراك أن فؤاد وضع الخريطة في الخزينة؟»
«لا تُطِلْ في الكلام… منذ عثر فؤاد على الخريطة ونحن نراقبه، مكث يومين في بيته ثم خرج ولم يذهب إلا إلى مكانين بعدما خرج، المكان الأول كان البنك.»
«والثاني؟»
سألته هذا السؤال ثم انكمشت من الخجل فكيف أسأل سؤالًا بهذه البلاهة.
لم أصدقه ولم أكذبه، واكتفيت بتوجيه سؤال مقتضب بضيق شديد:
«وأنت ماذا تريد مني الآن؟»
«أنت من ستسهل لنا الحصول على الخريطة من الخزينة.»
«وكيف ذلك؟»
«فقط سنأخذ فؤاد الحداد إلى البنك…»
قاطعته بعصبية.
«إنه مريض جدًا»
«أنت تشفق عليه وهذا حقك؛ أما نحن فلا يهمنا إلا الخريطة، أفهمت؟»
تلقيت أوامره أمرًا تلو الأمر، والغريب أنني لم أعد قادرًا على أن أعصي له أمرًا، لقد كسر إرادتي كسرًا لا ينجبر.
«سنأخذ فؤاد إلى البنك بدعوى أنه يريد الحصول على شيء من خزينته، وأنت ستتكفل بإقناع إدارة البنك بذلك وإضفاء المصداقية على كلامنا، وأنت أهل لثقتهم، وسترافقه أنت حتى الخزينة بحجة مساعدته على الحركة بالكرسي المتحرك…»
في الصباح كانت مهمة الوصول إلى الخزينة سهلة للغاية، حتى إنني أمشي في ممرات البنك بثقة مطلقة، وظهر مستقيم، ورأس مرفوع، أمرّ على مكاتب الزملاء أشير إليهم بإشارات متعالية كأنني ألقي عليهم السلام من مرتفع شاهق؛ خصوصًا حسن وضحى.
واثق الخطوة أمشي وكأنني لا أحمل في يدي شنطة فيها كل محتويات خزينة مسروقة، وكأن الذي أدفعه أمامي بالكرسي المتحرك مدرك لما أفعله وراضٍ عما أقوم به.
تمت عملية السرقة بنجاح منقطع النظير لدرجة أنني أفكر في تكرارها كل فترة.
ماذا حدث لضميري؟ هل سيطر عليّ يسري لهذه الدرجة؟ هل برمجني برمجة لغوية عصبية حذفت من ملفات عقلي الأخلاق؟
وبعد أن استقرت الشنطة ومحتوياتها في يد يسري ورجاله، سألت يسري عن سبب الفكرة التي راودتني عن رغبتي في تكرار السرقة فقال بسخرية:
«لأنك غبي.»
لا أعرف لماذا يهينني مجددًا؟ ألم أحقق له رغبته؟ ألم أجلب له الخريطة؟ لماذا يحقر من شأني؟
ولماذا يأمر رجاله بالالتفاف حولي وتكبيلي؟ ولماذا لا يكبلونني بحبل متين؟ لماذا يصر على تكبيلي بأسلاك حديدية؟ هل يظن أنني أيرون مان؟ ألست غبيًا كما يقول فلماذا إذن هذه الأغلال الحديدية؟
رغم أنني لم أتكلم ولم أسألهم عن سبب ما يفعلونه بي إلا أنه عاجلني بلكمة، ولكن هذه المرة ليست بقبضة يده وإنما بثقل حديدي، وزعق في وجهي:
«أين الخريطة أيها المغفل؟»
لقد استخرجتُ كل الأوراق التي كانت في الخزينة ووضعتها في الشنطة والشنطة معه، وكان كل هذا تحت سمع وبصر رجاله.
«الخريطة ليست في الشنطة أين أخفيتها؟»
«أخفيت ماذا؟ دعني وشأني يا يسري فقد أوفيت بوعدي معك، دعني وشأني.»
«شأنك! وهل لمثلك شأن؟ أمثالك لا شأن لهم، أنت بلا قيمة.»
رفع يده بالثقل الحديدي اللامع ملوحًا به أمام وجهي مرة أخرى، بدأ عداد سرعة التفكير يصفر في عقلي من فرط سرعته، ظهرت الذكرى كسيارة مسرعة تأتي من الجهة المقابلة تقلّب النور وتوشك أن ترتطم بعقلي لولا أن ضغطت المكابح لتستقر أمامه قبل الاصطدام بلحظة وتقول بصوت اللزج حسن الدهشان:
«تقصد العجوز الذي أعطاك العصا؟»
«لم يضربنِ يا حسن، أتفهم؟! لم يضربنِ.»
«العصا التي كان يمسكها ولوّح بها في وجهك في غضب.»
انهال الثقل الحديدي على رأسي محدثًا صوتًا مزعجًا كصوت احتكاك القطار عند الفرملة، وانهالت مع هذا الثقل ذكريات فؤاد الحداد في رأسي.
نقبت فيها عن الخريطة مجددًا، أراد فؤاد أن يتخذ من عملية سحب الأموال ستارًا للذهاب إلى البنك في ذلك اليوم وبعدها يودع الخريطة في الخزينة، ولكن أين خبّأ الخريطة إذا كان لم يدخل إلى الخزينة واكتفى بسحب الأموال وغادر البنك؟
فتشتُ في ذكرياته مجددًا إلى أن عثرت عليها، نعم وجدتها.
تنساب ذكريات فؤاد وهو يبحث في مواقع التسوق الإلكترونية.
مقبض مغطى بالفوم الطري، قاعدة قوية رباعية لحفظ التوازن، قابلة للطي والتعديل.
اشتراها وفور وصولها قام بتفكيك أجزائها، وبعد أن وضع فيها الخريطة أعاد تجميعها، وتوجه إلى البنك والعصا في يده، ولا أحد يشك في وجود خريطة داخل هذه العصا التي أعطاها لي.
ما هذا؟ لم يكن حسن الدهشان يتهكم أو يسخر مني عندما قال إن العجوز أعطاني العصا؟ لم أفهم قصده وقتها وانفعلت، ونسيت أن فؤاد كان قد قام بطي العصا وأعطانيها حتى يتمكن من تلقي الأموال، ونسيها معي ورحل، وعندما انتبهت لذلك، لحقت به في منتصف البنك وهو يسير سير عم أيوب البطيء، إلا أنه رفض أن يستردها مني وقال لي في ودّ وهو يربت على يدي الممسكة بالعصا:
«ستحتاج إليها.»
ظننت وقتها أنه يقصد أنني سأحتاجها عندما أكبر وأصير إلى ما صار إليه من العجز والوهن.
ولكنني الآن أدركت أنه كان رجلًا حصيفًا ذكيًا، أدرك قدراتي الخارقة فاكتشف أن أقدر شخص على حفظ هذه الخريطة هو أنا، أتمنى أن يكون قراره صائبًا.
تغيرت قواعد اللعبة مجددًا وعاد التوازن إليها، وبدوت مسيطرًا على الأمر وأنا أحدث يسري بنبرة متماسكة:
«إذا كنت تريد الخريطة سأعطيها لك، ولكن كُفّ عن هذا العبث.»
لقد وصفتُ ضرباته لي بالعبث رغم أنه يضربني بثقل حديدي، أو مطاطي يشبه الحديد؛ هذا ما أشعر به مع كل ضربة أتلقاها.
مرةً أخرى انصرف رجاله عني بعد أن فكوا قيودي بحذر، وعلى الفور اعتدلت في جلستي وأبلغته أن الخريطة موجودة في العصا التي كانت مع فؤاد.
تعجبتُ من نفسي بشدة؛ لقد كنت عازمًا على ألا أخبره بأنني حصلت على ذكريات فؤاد حتى لا يصل من خلالها إلى الخريطة، فإذا بي أدلُّه على مكان الخريطة مباشرةً وبدون أن أكلفه مجرد عناء البحث.
لقد بدأتُ أستغرب من تصرفاتي وتناقضاتها المتكررة، كأنني سيارة مقودها في يد الآخرين أو يتم تحريكها بريموت كنترول؛ ألهذا الحد من ضعف الإرادة وصلت؟!
ورغم تعجب يسري الشديد هو الآخر؛ إلا أنه لم يجد لديه اختيارًا آخر غير تصديقي، فسألني عن مكان هذه العصا، وبعد إجراء بعض الأبحاث في ذاكرتي وجدتها هناك، في شرفتي إلى جوار كوب الشاي الأخير الذي أعددته وتركته مكانه منذ يومين ولم أعد إليه.
بمجرد تكسيرهم للعصا وجدوا فيها الخريطة، وبمجرد إيجادهم الخريطة وجدوا الشرطة فوق رءوسهم.
بهتتهم الصدمة، لم ينطقوا إلا يسري الذي قال في أسى:
«لقد جئنا نصطاده فاصطادنا.»
نزلوا من شقتي رافعي أيديهم واحدًا تلو الآخر يسري ممدوح العتويل، ومساعداه الغبيان، وحبيبتي الموهومة غدير.
وقفتُ مع رجال الشرطة أودع هؤلاء المجرمين وهم يساقون إلى محاكمة لن تطول نظرًا لإحكام الأدلة، واكتفيت بنظرة ساخرة هازئة منهم مثلما فعلوا معي من قبل.
الآن انتصرت عليهم، وصعدت إلى شقتي وشرفتي بانتظاري، وكوب الشاي المفضل عندي ينتظر من يعده ولا أحد يعده غيري.
بعد قليل رن جرس الباب، توجهت تلقاءه لأفتح للطارق الذي شككت أن يكون أحد رجال الشرطة؛ أو أحد رجال يسري وقد استطاع الإفلات من قبضة الشرطة وجاء للقضاء عليّ.
دهمني ذهول شديد إذ فتحت الباب فصادف بصري وجهًا مألوفًا بالنسبة لي جدًا، وتضاعف ذهولي أكثر إذ وجدته يسلط نظرة حادة في عيني، كـأنه يريد أن ينومني مغناطيسيًا أو بالإيحاء كما كان يفعل عبد السلام النابلسي، فانكمشت كأنني أذوب من شدة حرارة النظرة التي شعرت أنها اخترقتني ونفذت لأعماقي.
ولأول مرة أحس أنني كتاب مفتوح أمام أحد، لقد اعتدت أن أكون أنا قارئ الذكريات، والعالم ببواطن نفوس من أمامه؛ إلا في هذه اللحظة كما لو أن الفراغ ابتلعني وألقاني إلى جوف العدم.
«لقد أنهيت مهمتك التي كلفتك بها بنجاح.»
تقلصت عضلات وجهي من الصدمة.
«مهمة‼ كلفتني‼»
«طبعًا لا تفهم شيئًا. أعرف ذلك؛ ولكنه ليس خطأك… لا تقلق سأتلافى هذه الأخطاء عند ضبط الإعدادات مجددًا.»
لم أستوعب ما أسمع، عن أية إعدادات يتحدث؟
ابتسم وهو يخبرني أنه يعرف ما أفكر فيه جيدًا وقال بنبرة حانية:
«لابد من منحك بعض الراحة فأنت تعرف أو لا تعرف كم بذلتُ من مجهود معك حتى أصل إلى الحد الذي جعل جهاز الشرطة يستعين بك في عملياته الخاصة؛ بل ويطلبون مني أن أمدهم بعدة نواريز مثلك قادرة على القيام بمهام مستحيلة يعجز عنها البشر.
صحيح أنك تتمتع بذكاء اصطناعي عالي الجودة؛ إلا أنك مازلت تقع فريسة لخداع البشر بسهولة، وإلا لما استطاع يسري خداعك بعض الوقت، ولكننا أخذنا لك بثأرك منه واستطعنا خداعه نحن أيضًا؛ وأكبر خدعة أننا سهّلنا له الوصول إلى الخريطة من خلالك؛ والآن هو يُسْتَجوب وسيتم التوصل إلى كل المنظومة العالمية التي تعمل من ورائه بغرض سرقة تاريخ هذا البلد.»
صَمَتَ قليلًا ثم أضاف كأنه يتكلم بصدق: «الآن عُدْ إلى حالة السكون، الآن أغمض عينيك ونَمْ في سلام، واستيقظ مجددًا لتذهب إلى عملك بنشاط… إلى اللقاء يا صديقي.»
أغمضتُ عيني كما طلب مني، وبعد أن كان يشغني سؤالٌ واحدٌ هو: «من أنا؟»
أصبحا سؤالين يترددان في ذهني إن كان لي ذهن.
«من أنا؟ ومن هو؟»
أدركت أنني من صدمتي نسيتُ أن أسأله عن اسمه، فهو على أي حال يدعي أنني صديقه، ناديته وهو يهم بالخروج.
بصوت معدني مكتوم: «يا …»
لم أجد اسمه في ذاكرتي فهو الوحيد الذي عجزتُ عن قراءة ذكرياته، فاستدار مبتسمًا وقال لي بلطف:
«حاتم سليم!!»