مقال قانوني – المسئولية الجنائية للمريض النفسي في ضوء التشريعات القانونية والتطبيقات القضائية (1) – المستشار سمير عبد العظيم حيطاوي



    تدور تساؤلات عديدة على طاولة الحوار القانوني حول الكيفية التي تُستخدم لإثبات أن مرتكب الجريمة أو الموظف المرتكب لمخالفة إدارية قد ارتكبهما حال مرضه النفسي؛ أي كيف يمكن إثبات معاصرة المرض النفسي للجريمة أو للمخالفة الإدارية وتأثيره عليهما؟ وكيف يمكن تحديد كون مرتكب الجريمة أو الموظف المخالف مريضًا نفسيًا من عدمه؟ وأي درجة من درجات المرض النفسي قد بلغ؟ وما هي آلية تحديد المرض وجسامته من الناحية الطبية؟ وماهية العقوبة التي تتناسب مع ثبوت إصابة الجاني أو المخالف بهذا المرض؟ أو ما هو الإجراء الأمثل لمجابهة المريض بهذا المرض حال ارتكابه جريمةً أو مخالفة؟


    وليس بخفيٍّ أن درجات المرض النفسي تتفاوت من حيث شدته ومن ثم شدة تأثيره، وضعفه وضعف تأثيره، وتأرجحه بين الشدة والضعف وتأرجح تأثيره، وهذا هو ما يحدد تأثير المرض على الوعي والإدراك والإرادة والاختيار ومن ثم المسئولية فالعقوبة أو الإجراء الاحترازي، ولذلك فإن البداية المنطقية هي ضرورة الانطلاق من تحديد جسامة المرض ثم تصنيف الأمراض تبعًا لجسامتها وفقًا لأعراضها وتقسيمها إلى ثلاث مستوياتٍ، بحيث يكون لكل مستوىً تأثيره ويكون لكل مستوى عقوبته أو الإجراء المناسب له، مع مراعاة أن جسامة المرض تختلف من مريضٍ لآخر، أي أن هذا التصنيف خاص بالأمراض وليس بالمرضى فربما كانت سمات شخصية واحدٍ من المرضى المصابين بمرض جسيم تجعل تصنيفه واقعًا في نطاق المرض المتوسط، كأن تكون إرادته صلبة ووعيه متوفر رغم جسامة مرضه وشدته، ومن ثم ففي هذه الحالة يتم تصنيفه ضمن مستوى المرض المتوسط، رغم أنه مريض بمرض من المستوى الأول، وهكذا فإن هذه المسألة مسألة واقع وتحتاج لوسائل دقيقة للإثبات المادي والقانوني وتبعًا لحالة كل قضية.


    ولدينا في هذا الخصوص مقترح بأن يتم إنشاء جدول للأمراض النفسية وتصنيفاتها، وأن يتضمن الجدول جسامة المرض وطرق إثباته وأثر ثبوته على المسئولية الجنائية، وأن يراعى تحديث هذا الجدول بصفة دورية كل خمس سنوات على الأكثر بحيث يجاري التطورات العلمية وما يستحدث من أمراض نفسية وما يستجد من اكتشاف آثار لأمراض قديمة.


    ومن هذا المنطلق يمكننا أن نميز بين الأفعال التي يأتيها المريض النفسي واقعًا تحت تأثير المرض، وبين تلك التي يأتيها بإرادته الحرة، ويكون من الممكن اكتشاف الحقيقة أسرع في حال ادّعى أو حاول الإيهام بأنه كان تحت تأثير المرض.


    ويعزز من أهمية مقترحنا انتشار الأمراض النفسية في أيامنا الحالية وربما استمر انتشارها لعقود قادمة، فالضغوط التي أدت لانتشارها الآن تتزايد يومًا بعد يوم بما ينبئ بمستقبل فيه طغيان لهذه الأمراض وتزايد حدتها وربما برزت أمراض أخرى غير المعلومة لنا اليوم؛ ولذلك وبدلًا من دفن رؤوسنا في الرمال، آن أن نغير طريقة التعامل مع هذا الأمر برمته، بحيث نتمكن من  معرفة المستحق للعقوبة المكتملة والمستحق لعقوبة مخففة ومن لا يستحق أن يعاقب بل أن يراعى ويعالج، وذلك مع الأخذ بوجهة نظر الأطباء النفسيين و رأيهم في مدى مسئولية المريض النفسي جنائيًا باعتبار أنهم أولياء أمر هذا المريض الحقيقيين؛ فدائرة المرض متسعة ولا بد من التوصل لآلية تثبت كون الشخص مريضًا من عدمه وذلك تمهيدًا لتوقيع الجزاء المناسب لحالته، فليس الحبس والسجن والإعدام هي الوسائل الناجحة وحدها، بل سيدخل في حسابنا وسائل أخرى كوضع المتهم المريض تحت الملاحظة لتصنيفه تصنيفًا دقيقًا وتحديد وسيلة العقاب أو التقويم الفعالة معه، فربما لو استطعنا تمييز المتهمين المرضى عمن سواهم لتمكنا من تقليل عدد المجرمين.

المقال التالي


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top