مقال قانوني – المسئولية الجنائية للمريض النفسي في ضوء التشريعات القانونية والتطبيقات القضائية (2) – المستشار سمير عبد العظيم حيطاوي

مكتبتي - مقال المسئولية الجنائية للمريض النفسي

 

    استكمالاً لما بدأنا طرحه في المقال السابق من فكرة عامة نظرية حول مدى مسئولية المريض النفسي جنائيًا، ننتقل إلى أرض الواقع لنعاين التشريعات القانونية المنظمة للأمر في النظام القانوني المصري، والتطبيقات القضائية الحاكمة للمسألة في أحكام محكمة النقض المصرية.


    ونلاحظ في البداية أن المشرع المصري قد عالج هذا الأمر بالقانون رقم 71 لسنة 2009 الصادر بتاريخ 13-5-2009 المعمول به اعتبارًا من 15-5-2009م؛ بشأن إصدار قانون رعاية المريض النفسي وتعديل بعض أحكام قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937 وقانون الإجراءات الجنائية الصادر بالقانون رقم 150 لسنة 1950؛ وقد نشر هذا القانون في الجريدة الرسمية 20 تابع.


    ونسلط الضوء في مواد إصدار ذلك القانون على عدة نقاط.

أولها – أن المادة الثانية من مواد الإصدار قد استبدلت نص المادة (62) من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937، وأحلت محله نصًا جديدًا.

وقد كانت تلك المادة في نصها الأصلي تقرر أنه:

«لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل: إما لجنون أو عاهة في العقل، وإما لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيًا كان نوعها إذا أخذها قهرًا عنه أو على غير علم منه بها.»


بينما جاء التعديل الذي نحن بصدده ليحل محلها النص الجديد مقررًا فيه أنه:

«لا يُسأل جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أفقده الإدراك أو الاختيار، أو الذي يعاني من غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيًا كان نوعها إذا أخذها قهرًا عنه أو على غير علم منه بها. ويظل مسئولاً جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره، وتأخذ المحكمة في اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة.»


    والفارق بين النصين من الناحية الإنشائية ومن ناحية بناء النص اللفظي يتجلى في إحلال لفظة: “المسئولية الجنائية”، محل لفظة: “العقاب”؛ وإحلال لفظة: “الإدراك”، مكان لفظة “الشعور”؛ وكذلك إحلال لفظة: “يعاني وقت ارتكاب الجريمة”، محل لفظة: “يكون وقت ارتكاب الفعل”؛ بالإضافة إلى إحلال لفظة: “اضطراب نفسي أو عقلي”، محل لفظة: “جنون أو عاهة في العقل”، ثم أضاف استدراكًا واستثناءً يخص حالة نقص الإدراك وليس فقده.


    ولهذه الفوارق اللفظية آثار في البناء النصي وفي الفهم القانوني وفي التطبيق العملي، ذلك أن لفظة المسئولية الجنائية التي حلّت محل لفظة العقاب، في قول المشرع لا عقاب، وفي قوله المعدل لا يسأل جنائيًا، قد غيرت طبيعة الإعفاء الذي يتمتع به مرتكب الجريمة نتيجة اضطراب نفسي أو عقلي، فحين قال المشرع لا عقاب كان مرتكب الجريمة مستظلًا بمظلة مانع من موانع العقاب بوصفه عذرًا معفيًا من العقاب؛ أما في اللفظ المعدل لا يسأل جنائيًا، فقد تغيرت هذه المظلة ليصير واقعًا تحت مظلة مانع من موانع المسئولية، وموانع المسئولية تكون متعلقة بشخص مرتكب الجريمة وبأسباب شخصية لديه تؤثر على إدراكه وإرادته، وكلتا المظلتين لا تنفيان وصف الجريمة عن الفعل المقترف، إذ سواء كان عدم توقيع العقوبة راجعًا لمانع من موانع العقاب أو مانع من موانع المسئولية ففي الحالتين يظل الفعل نفسه مجرمًا، ولا يعني دخوله تحت مظلة المنع من المساءلة أو العقوبة أنه قد أصبح مباحًا، بل يظل على ما هو عليه من التجريم.


    ولكن الفارق بين ما قرره المشرع في النص القديم وما قرره في التعديل هو أنه حين قال لا عقاب كان يعني أن الجاني يظل مسئولًا جنائيًا ولكن حالته التي ألمت به تعفيه من العقاب، أما بعد التعديل فقد قرر المشرع أنه لا يسأل جنائيًا من الأساس، أي أنه لا يسأل ولا يعاقب، واللفظ المعدل أكثر شمولًا واتساعًا من اللفظ القديم وإن كان الأثر العملي لكليهما يكاد يكون واحدًا بالنظر إلى النتيجة الواقعية وهي براءة ساحة الجاني.


المقال السابق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top