تبدأ السورة بقسمٍ بالفجر، والفجر هو انفجار الضوء في الصباح بعد ظلام الليل، إذن ما قبل القسم كان الوضع ظلامًا دامسًا، ثم جاء الفجر فكشف هذا الظلام وأزاحه من الوجود، وليالٍ عشر؛ وهي هذه الليالي التي تنتهي بالعيد والفرح بعدها.
ثم تأتي بعد ذلك الآيات لتبين علاقة القسم بالقصص التي بعده فجاءت الآيات مبينة لحال عاد وثمود وفرعون وعلوهم وسيادتهم وهيمنتهم ثم زوالهم وإزاحتهم كما يزيح الفجر ظلام الليل وكما يفرح المؤمنون بالعيد الذي يلي الليالي العشر؛ ولكن يثور تساؤل عن الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه، ما علاقة الإنسان بهذه الحكايات الثلاث والقصص التي سبقته عن عاد وثمود وفرعون، والعلاقة هنا هي ما نحاول استشفافه وإيجاده وقد وجدنا أن أقرب ما يمكن أن ينطبق عليها هو ما ورد بسفر إرميا.
فإن الخالق القدير بعد أن ذكر فرعون وعاد وثمود تحول لذكر الإنسان وحاله مع خالقه إذا أغناه أو أفقره، ولكن «الإنسان» هنا على الرغم أنها جاءت كلمة عامة إلا أن لها صدى في تاريخ الأنبياء مع أممهم، أي أن حال الإنسان هنا هو حال أمة كحال أمة فرعون أو عاد أو ثمود، وهي أمة إرميا النبي، وبني إسرائل وما جرى معهم، ففي سفر إرميا خانت إسرائيل الرب وعبدت غيره ورفضوا التوبة، وورد في الإصحاح الخامس: «يقول الرب: وعندما يسألون لماذا صنع الرب إلهنا بنا هذه الأمور كلها؟ تقول لهم كما أنكم تخليتم عني وعبدتم الأوثان الغريبة في أرضكم كذلك تستعبدون للغرباء في أرض ليست لكم»، وفي العدد 24، 25: «وأما هذا الشعب فذو قلب متمرد عاصٍ ثاروا عليّ ومضوا ولم يتناجوا في قلوبهم قائلين لنتق الرب إلهنا الذي يغدق المطر في مواعيده في موسمي الربيع والخريف ويحفظ لنا أسابيع الحصاد حسب مواقيتنا غير أن آثامكم حولت عنكم هذه البركات وخطاياكم حرمتكم من الخير ففي وسط شعبي قوم أشرار يكمنون كما يكمن القناص للطيور وينصبون الفخ لاقتناص الناس، بيوتهم تكتظ بالخديعة كقفص مملوء طيورًا لذلك عظموا وأثروا ازدادوا سمنة ونعومة وارتكبوا الشر متجاوزين كل حد لم يحكموا بعدل في دعوى اليتيم حتى تنجح ولم يدافعوا عن حقوق المساكين أفلا أعاقبهم على هذه الأمور ألا أنتقم لنفسي من أمة كهذه؟».
إذن هذه الأمة كانت تعيش حالة من الرخاء والإكرام والإنعام من الرب ثم لم يكرموا اليتيم ولا المسكين وازدادوا ثراء وأحبوا المال فانتهى بهم المطاف إلى نزول عقوبة إلهية بهم فقدر عليهم رزقهم وضيقت عليهم معيشتهم وتم سبيهم.
وعلى ذلك فقد لخصت آيتان من سورة الفجر حال أمة إرميا من بدايتهم لنهايتهم وأسباب سقوطهم في السبي البابلي لنبوخذ نصر.
(فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ . كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ . وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ . وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا . وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا )
وفي هذا مظهر من مظاهر الهيمنة القرآنية على الكتب السابقة.
والمستفاد من ذلك أيضاً أنك عندما تقرأ السورة فتجدها تفتتح بقسم ثم سؤال رباني ألم تر كيف فعل ربك بعاد وثمود وفرعون، وهؤلاء جُمعوا مع بعضهم لأنهم مشتركون في شيء واحد هو أنهم طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد وتم تعذيبهم؛ أما الأمة الرابعة فكانت أمة مؤمنة ولكنها ضلت وعبدت الأوثان، حادت عن الصواب فتحول الرخاء عنهم وحل محله الضيق الشديد، وما كان ذلك إلا بكسب أيديهم.
والآن بعد ربط أحداث السورة ببعضها يكون واضحًا أن القسم بالفجر وزوال الليل له علاقة بالأمم التي تجبرت ثم زالت، وكذلك له علاقة بتحول النعمة وزوالها عن الإنسان إذا ابتلاه ربه بالإكرام أو التضييق عليه فلم يشكر.
كما بات واضحًا سبب ورود المثال الأخير في هذه السورة وعلاقته بالقصص التي سبقته، وسبب وروده عامًا دون تحديد الأمة المقصودة؛ وهو أن هذا الحال ينطبق على الفرد مثلما ينطبق على المجتمع، ولذلك جاء المثال عامًا ليكون كل إنسان مخاطبا به على حدة وحتى لا نظن أننا بعيدين عن هذه الحال.