أسانسير العمارة.
يدخل مع صديق عمره الأسانسير ليصعدا للطابق الثالث الذي
يقطن فيه.. ينظر لصديقه نظرة مملوءة بالأسى.. يبتسم ابتسامةً مشوبة بالحذر.. يفكر
قليلاً في حال صديقه من بعده، إنه يحبه جداً.
وفجأة!
يختنق..
تُسحب أفكاره من رأسه.. يوضع غيرها..
قوة ما تحركه.
يعلو الأسانسير و لا يهبط..
يعلو صدره و يهبط..
الهواء يتلاشى..
يتبدد..
لا مجال للتنفس..
سأرحل للأبد!
يفيق..
لقد أطبق على رقبة صديقه حتى الموت.
يضحك!!
يتوهم أنه هو الذي مات.
يقول في فخرٍ محادثاً القوة التي تسيره:
«أخيراً رحلت عنك، ولن أفعل أي شيء تأمرينني به بعد
اليوم».
فُتح الأسانسير..
صرخات الجيران!
يدرك الحقيقة.
«لازلت حياً، صديقي هو من مات».
(2)
إشارة مرور..
زحام شديد ..
ينظر للمارة الذين يعبرون الطريق في أسى والحزن يعتصره،
يبتسم ابتسامة مشوبة بالحذر .. يفكر قليلاً و يتساءل في شرود:
«ما ذنب هؤلاء الأبرياء؟»
و فجأة!
يختنق ..
تُسحب أفكاره من رأسه.. يوضع غيرها..
قوة ما تحركه.
أصوات تعلو و لا تهبط..
صدره يعلو و يهبط..
الهواء يتلاشى ..
يتبدد..
لا مجال للتنفس..
سأرحل للأبد!
يحس بحركة ثعابين داخل بطنه، و يسمع صوت القوة يسبه:
«لا مفر أيها الجبان!»
(3)
رجل؟»
كمن يقر بذنبه قال الضابط سعيد:
«هذا ما حدث، و لكننا …».
قاطعه اللواء في صرامة:
«و لكنكم.. و لكنكم ماذا؟ حادثتان تقعان في يومٍ واحد و
وقت متقارب وتعجز عن فعل شيء.. أي شيء.. وفي النهاية تقول ولكننا، افهم جيداً ما
أقوله لك، أنا لا أريد أعذاراً واهية».
ثم ازداد اللواء صرامة وهو يقول:
«إن لم تقبض على هذين المجرمين في غضون اليوم
فلك أن تتخيل عقابك».
كرّر الضابط سعيد جملة اللواء الأخيرة في نفسه بغيظ،
وخرج وهو في قمة الحيرة، وتوجه إلى عسكره وأمرهم فتجهزوا وأنذرهم بما أُنذر هو به،
ثم وقف قليلاً يفكر و يطرح الأسئلة و يجيب عليها بنفسه:
«شخص يصدم بسيارته كل هؤلاء الأشخاص، و يقتل هذا العدد
من الناس الذين لا يربط بينهم رابط واحد، أيكون في وعيه؟ لا أظن».
قطع تفكيره صوت العسكري يخبره بأن اللواء محمود يريده في
مكتبه مرة أخرى.
«لدينا معلومة جديدة قد تفيدك في بحثك و
تحرياتك و توفر عليك الكثير من الوقت»
قالها اللواء ثم بدأ في الشرح:
«لقد وردتنا معلومة تقول إن الشخص الذى قتل صديقه في
الأسانسير فرّ هارباً تجاه الطريق الذى وقعت فيه الحادثة، وربما كان هو نفسه مرتكب
الجريمتين»
بدأ الضابط سعيد مهمته، و انتقل على الفور إلى بيت
المجرم المحتمل.
التقى بأخيه الأكبر عادل، سأله عن حياة أحمد وعن حالته
النفسية، و فيما لو كان يحب القسوة في تعاملاته، وجاءت الإجابة كصدمة كهربية تلقاها
سعيد.
«أحمد أخي مثال للصفاء، فما كان يكره أحداً و
لم يؤذ أحداً ولو بالكلام، وكل من عاملوه يقرون له بذلك، و لك أن تسأل الجيران
وغيرهم ممن يعرفونه».
وبعد سؤال الجيران و الذين أكدوا قول عادل ازدادت حيرة
الضابط سعيد و تألم عقله من التفكير، و أخذ يحدث نفسه بذهول:
«دائما ما كانت تواجهني جرائم والفاعل مجهول، كان معظم
تفكيري ينصب على معرفة الفاعل؛ ولكنني اليوم أعرف الفاعل ولا أعرف دافعه للقتل،
فشخص كهذا ما الذى يدفعه ليرتكب مثل هذه الجريمة، إن في الأمر شيء غامض، إن معرفة
دافعه للقتل سيمكنني من منعه من ارتكاب جرائم أكثر من ذلك».
و توقف سعيد عند هذا التساؤل الأخير كثيراً، ثم عاد إلى
والد أحمد وسأله:
«هل بدا عليه اليوم شيء من تغير المزاج؟ أعنى
هل كان عصبيا بعض الشئ؟»
صدمه الوالد صدمة أخرى بإجابته التي ألقى بها على سمع
سعيد محفوفة بالدموع.
«ابني أحمد كان في قمة سعادته اليوم وأطلق
سيلاً غزيرا من النكات».
استغرق الوالد في البكاء، و بعد أن هدأه الضابط استكمل
حديثه مشدداً:
«أقسم لك أن أحمد ابنى لا يمكن أن يكون هو القاتل».
(4)
«شخص في قمة العقل؛ كل ما فيه حسن ورائع وجميل، لا يؤذى
أحداً ولم يقل عنه الجيران غير كل خير، و لقد استنكروا ما حدث وأقسموا جميعا أنه
من المستحيل أن يكون هو القاتل… و لكنهم أيضا أكدوا أنهم رأوه مع صديقه في
الأسانسير و شاهدوه مطبقا على رقبته و لما رآهم فرّ هارباً، فإن لم يكن هو القاتل
فلماذا يهرب؟»
جلس سعيد يفكر في شرود و ذهول، واصطحب عادل إلى القسم
وقال له:
«للأسف يا عادل ستبقى معنا».
قالها سعيد ونظر إلى عادل لعل ردة فعله تخبره بشي، و لكن
عادل خيب أمله فلقد قال بهدوء:
«تحت أمرك و لكن من حقي أن أعرف لماذا؟»
تحرك سعيد من خلف مكتبه في حركة خاطفة حتى صار يقف خلف
عادل و اقترب من أذني عادل وهو يقول له بصوت خافت مليء بالغيظ:
«لماذا؟ ألا تعرف لماذا؟ لأنك تخفى شيئا».
حاول عادل مقاطعته و لكن سعيد لم يعطه الفرصة و استمر
يقول وهو يزداد عصبية:
«أنت تخفى شيئاً يا عادل، وإن لم تخبرني به فأنت بذلك شريك
فى الجريمتين اللتين وقعتا؛ بل و ستكون سببا في جرائم أخرى ستقع. يا عادل! أنا
الآن أخاطب ضميرك، بيدك الآن أن تنقذ أبرياء لا ذنب لهم، فقط أخبرني بما تعرفه
ربما تمنع جريمة أخرى».
اخترقت الجملة الأخيرة أذن عادل كصاروخ وزلزلته زلزالاً
رهيباً، فلم يكن في حسبانه أن جرائم أخرى قد تقع، وبدأ يتكلم بعد أن انهار على
المقعد:
«بالفعل لقد أخفيت عنك بعض الأمور؛ لكن هذا لا يعنى أنني
شاركت في أية جريمة، ولكن كنت أظن أن إخفاءها في صالح أخي، وسأخبرك بها الآن ربما
أساعد في منع جرائم أخرى».
«إذن أفهم من كلامك أن أحمد هو القاتل؟»
«بالطبع لا؛ ولكن هناك أحداً ما يقتل بيديه،
إنه لا يعدو أن يكون فاعلاً معنوياً للجريمة، وهناك فاعل آخر حقيقي يحركه، إن أحمد
أخي مجرد آلة في يد أحدهم يلهو به كيف يشاء، ويدفعه لارتكاب هذه الجرائم بغير
إدراك من أخي».
تساءل الضابط سعيد:
«من يا ترى يحرك أحمد؟»
قال عادل:
«ربما كان واقعاً تحت تأثير نوع من أنواع السحر الأسود»
«سحر أسود؟!»
كررها الضابط سعيد بتعجب، و قال لعادل بصوت مملوء
بالإشفاق:
«ولكن يا عادل كيف نثبت هذا؟ إن أحمد لو كان
واقعا تحت تأثير أي نوع من السحر، فهذا لا يعنى إلا شيئاً واحداً وهو أنه سيتحمل
المسئولية كاملة، فليس عندنا معامل تحلل السحر وتثبته لنا ولا وجود له في قوانيننا
ولا اعتراف به، إنني لا أتحدث معك الآن كضابط وإنما يمكنك أن تعتبرني صديقك».
ابتسم عادل ابتسامه شكر بائسة، فبادر سعيد بسؤاله:
«ولكن ما الذى يدفعك للقول بأن عادل واقع تحت تأثير
سحر؟»
«أحمد أخي كما تعلم لم يكن مصدر قلق لأحد و
لم يؤذ أحدا بالفعل؛ ولكنه كان معنا غريب التصرفات فكثيرا ما كان ينسحب عنا ويعيش
في عالم خاص به، و لقد بدأ يبدو غريب الأطوار هكذا بعد وفاة والدته، وأحيانا كان
يصاب بحالة من الاختناق، ثم يعيش بعدها في نوبة من الاكتئاب».
(5)
في هذه الأثناء كان أحمد يتجوّل على قدميه في المدينة،
يجوب شوارعها بلا هدف غير أنه يهرب، ولكنه لم يكن يدري مما يهرب، كان كل تفكيره
منصبا على الهروب وحسب، ربما يهرب من نفسه، وربما كان يهرب الى نفسه، كانت الأجواء
الممتعة في هذه المدينة الساحلية الجميلة تدعوه أن يكون صافى النفس رقيق المشاعر.
راح يسير في الطرقات بعد أن ترك سيارته وغادرها بلا سبب،
لم يعرف لماذا نزل منها، غير أنه شعر أنه لا بد أن يتركها.
يلمح على الشاطئ طفلاً جميلاً يسير بدون مرافق، يخشى
عليه من الغرق، يحاول الاقتراب منه ويشعر أن حبه يتملكه، يقلب ناظريه في المحيطين
لعله يجد أبويه أو أحدهما، لا يجد أحدا يهتم لأمر الطفل، يحدث نفسه ربما لو كانت
أمه موجودة لاهتمت به، تذكر أمه هو أيضا وشعر بالأسى لافتقادها، يقترب من الطفل
أكثر ويربت على كتف الطفل من الخلف بقوة.
(6)
نظر الضابط سعيد إلى عادل وهزّ رأسه متفهما، ومعطيا
إشارة لعادل ليستمر في الكلام عن حالة أحمد، واستمر عادل يقول:
«وبعد أن عانى من الاكتئاب في الفترة الماضية لاحظنا
عليه شيئا من الجمود العاطفي في تعاملاته، وكــان يفعل أشياءً غريبة ويقول إن هناك
من يدفعه لفعلها، وكثيرًا ما كان يقول بأنه يسمع من يسبه ويهينه، أصبح يفضل
العزلة، لم يعد له أصدقاء ترك أصدقاءه كلهم، لم يبق إلا صديق واحد واليوم فارقه
أيضا!»
«هل كان هناك أية خلافات بينهما في الفترة
الأخيرة؟»
نظر عادل للضابط سعيد بابتسامة ساخرة، وهو يفكر فى نفسه
أن هذا السؤال روتيني أكثر من اللازم، وأجابه باقتضاب:
«كان صديقه الوحيد!»
«هذا يزيد الأمر تعقيدا يا عادل، ولكن أخبرني
بما جرى بعد ذلك».
«بعد أن عاش أحمد في العزلة، فشل في عمله و لم يستمر
فيه، وبدأ في عمل غيره وفشل فيه أيضا، فلم يعد يستمر في أي عمل فترة من الزمن».
أطرق سعيد برأسه مفكراً، وأصبح يقلب الأمر على كل وجوهه،
بدا غير مرتاح لفكرة السحر الأسود هذه؛ فبادر سائلا عادل:
«لماذا لم تعرضوه على طبيب نفسى؟»
«إن والدى منذ فترة كان يتحدث عن هذا الأمر؛
ولكنني لا أعرف إن كانا قد ذهبا للطبيب».
(7)
ينظر له الطفل نظرة بريئة حانية ويبتسم، يتفحص أحمد عيني
الطفل في محبة.
و فجأة !
يختنق ..
تُسحب أفكاره من رأسه.. يوضع غيرها..
قوة ما تحركه.
يضغط على رأس الطفل في الماء، تدفعه الأمواج للأعلى وهو
يضغط على الطفل، ألقته الأمواج هو والطفل على الشاطئ، يحتضن الطفل بقوة ويضمه إليه
بشدة.
«إنه طفل صغير لا يحتمل ضمتك هذه».
سمع صوتا من خلفه يقول له هذه الكلمات، لم يلتفت، إنه
صوت القوة التي تأمره دائماً، يصرخ فيها:
«لا شأن لك بهذا. لا تتدخلي فيما لا يعنيك».
رد الصوت مملوءً بابتسامة خالطت الكلمات وبدت واضحة
فيها:
«كيف لا يعنيني؟ إنه طفلي».
ترك الطفل يسقط من بين يديه، وبدا الطفل و كأنه عائد
للحياة لتوّه، التفت أحمد للخلف.. رآها!
ليست القوة المعتادة، إنما امرأة حقيقية.. قال أحمد
بذهول وتوتر وهو لا يكاد يلتقط أنفاسه:
«طفلك؟!»
«نعم. وأنا أشكرك لأنك أنقذته من الغرق».
قالتها بصوت ممتلئ بالامتنان.
«غرق؟ ماذا حدث؟»
«يبدو أنك مرهق بعض الشيء. لقد شارف ابني على
الغرق وأنت جريت وراءه ونزلت البحر مسرعاً وقاومت الأمواج العالية التي جذبته إلى
داخل البحر، وكاد البحر يبتلعه لولا أنك تحركت في الوقت المناسب وأنقذته، لا أعرف
كيف يمكنني أن أرد جميلك هذا؟»
لا يزال أحمد مذهولا مما حدث، و لكنه قال لها:
«جميلي؟! لا عليك… المهم أنه ما زال حياً».
ولّى أحمد ظهره لها و مضى في سبيله غير المعلوم، مشوش
الفكر مضطرب الوجدان، يتساءل في نفسه والحيرة تستذئب عليه:
«ما هذا الذى يحدث معي؟ إنني لا أفهم شيئاً، كنت أظن
أنني أقتل الطفل فإذا بي أنقذه، وكيف حدث هذا و لم أدركه؟ لا، لقد أدركته ولكن
أدركته على غير حقيقته، يا ترى ماذا كان سيحدث لو لم تتدخل أم الطفل؟ إنها الآن
شاكرة لما فعلته من أجل ابنها، ولكنها لو انتظرت قليلا ربما كان رأيها قد تغير،
إنني لا أفهمني جيداً؛ بل لا أفهمني على الإطلاق، كيف أتصرف بهذه الطريقة؟ لا، لست
أنا من يتصرف إنها هي؛ هي التي تتصرف.. صاحبة الصوت البغيض الذى يسلبني قدرتي على
التحكم في نفسى، إنها هي التي تسيرني، هي التي تأمرني وتنهاني، أنا لعبة في يديها
تلعب بها كيف تشاء. كيف الخلاص منك أيتها القوة البغيضة؟ سأرحل قبل أن أسبب أضرارا
لآخرين، يكفى ما حدث حتى الآن، سأرحل للأبد».
«و لكن هل تظن أنني سأتركك؟»
ترددت الكلمات في أذنيه مخلوطة بقهقهة ساخرة مصطنعة فجة
ملأت قلبه غيظا وعزما على الفرار فانطلق يعدو في الشارع، ومن يراه يظن أن أحدا
يطارده، وربما كان ذلك حقيقيا بالفعل وليس محض ظن، فلقد تصادف جريه هربا من القوة
المتحكمة فيها، مع ملاحظة شرطيين له، وتعرفهما عليه وأنه هو الشخص نفسه بملامحه
وملابسه ذاتها الواضحة في الصورة المأخوذة له من كاميرا المراقبة في الأسانسير
والتي تم إرسالها إلى جميع أفراد الشرطة في المدينة.
قاما بمطاردته في اللحظة ذاتها التي عدا فيها، وتأكد
لديهما أنه هو القاتل المطلوب وبالأخص بعد أن جرى هربا منهما على ما ظنّا، وظلاّ
يطاردانه و هو يهرب من تلك القوة البغيضة.
(8)
في هذه الأثناء كان الضابط سعيد ووالد أحمد وعادل أخوه
يجلسون مع الطبيب النفسي الذى يتابع حالة أحمد، والذي لم يتفاجأ لما أخبروه بما
حدث، كأنه شيء متوقع.
قلب الطبيب النظر في وجوه ثلاثتهم وقال موجها كلامه
لوالد أحمد وتشبع صوته بنبرة اللوم والعتاب:
«ألم أقل لك إن أحمد ينبغي ألا يهمل في العلاج؟ ألم أقل
لك إنه لو أهمل في العلاج فمن الممكن أن يرتكب جرائم قتل مفرطة في الغرابة؟»
تساءل الضابط سعيد بصوت قوى:
«وهل أهمل أحمد في العلاج؟»
أجاب والد أحمد بصوت منكسر:
«هذا ما اكتشفته فقط اليوم».
تدخل عادل في الحوار وتكلم بطريقة جافة وبنبرة سريعة:
«هذا كله لا يعنينا الآن، لقد أخبرت والدى من قبل أنه من
الممكن أن يقتل، و قد كان؛ فهل يمكن أن تخبرنا بما يمكن أن يفعله أحمد بعد ذلك،
لعلنا نستطيع فعل شيء لمنعه؟»
لم يأبه الطبيب لطريقة عادل الحادة فهو يقدر الظرف الذى
هو فيه؛ ولكنه نظر نظرة متأملة، و بدا كأنه يقرأ الطالع، وغطت الغرفة في سكون
مهيب، وتعلقت أنظار الثلاثة به.
أخذ يقلب في رأسه كل الاحتمالات الممكنة، ليخلص في
النهاية إلى احتمال وحيد أكيد، وتنحنح وازدرد ريقه ثم بدأ يقول:
«مع الأسف، يمكنني أن أقول لكم إن ما أعرفه هو أن 50% من
مرضى الفصام يحاولون الانتحار، و10 % منهم
ينهون حياتهم بالفعل».
انهار والد أحمد باكياً وأثناء محاولتهم تهدئته، رنّ
هاتف الضابط سعيد، وكان على الطرف الآخر أحد الشرطيين اللذين يطاردان أحمد.. أخبره
بمكانه وكان الظلام قد حلّ على المدينة الساحلية، ولا يزال الشرطيان يطاردان أحمد
غير متمكنين منه.
فلمّا علم الطبيب بالأمر هتف في الضابط سعيد:
«أخبرهم ألا يؤذونه».
أخبرهم الضابط سعيد بذلك، واستكمل الطبيب:
«إنه ليس بمجرم ، إنه برئ، إنه لا يدرك ما يحدث، ليس
مسئولا عن شيء مما يقع، إنه ليس بقاتل، هو لا يعرف ما يفعل».
قبل أن يتم الطبيب جملته كان عادل وسعيد قد نهضا يركضان
بسرعة فائقة، وكلاهما يتمنى شيئا واحدا هو ألا يصدق الطبيب النفسي فيما قال، أو أن
يكون أحمد من ال 50 % الذين يحاولون الانتحار فقط ولا ينجحون.
بينما أقعدت الصدمات المتلاحقة والد أحمد غير قادر على
الحركة.
«أين هو الآن؟»
تساءل عادل وهو يشهق في قوة، وأجابه سعيد وهو لا يكاد
يتنفس:
«لقد فرّ منهما باتجاه البحر، و لا يزالان
يبحثان عنه».
(9)
بحر هادئ جميل..
الأمواج هادئة ..
يقف أعلى صخرة..
ينظر لأقصى البحر فيشتاق للوصول إلى هناك..
ضوء القمر ينعكس على وجهه، سأرتمى في أحضانك أيها البحر
الحبيب.
وفجأة !
يختنق..
تسُحب أفكاره من رأسه.. يوضع غيرها..
قوة ما تحركه.
تعلو الأمواج و لا تهبط..
يعلو صدره ويهبط ..
الهواء يتلاشى..
يتبدد..
التنفس مستحيل .. سأرحل للأبد.
«أحمد!»
يلتفت خلفه بحركة مفاجئة، يبتسم ابتسامة مشوبة بالحذر،
يفكر قليلا في مصير صديقه، يفكر في مصير الأبرياء الذين قتلهم:
«لا بد أن تلحق بهم».
تلك القوة البغيضة تأمره.
«أحمد!»
الثعابين تتحرك في بطنه حركة دائرية كريهة.
يحدث نفسه بتحدٍ:
«لا بد أن أتخلص من كل هذه المعاناة، لا سبيل إلا
الارتماء في حضن البحر، أيها البحر افتح ذراعيك و تلقفني، سأقفز فيك».
تعالى صوته بالجملة الأخيرة وهو يقولها في نشوة عظيمة،
فتعالى صراخ عادل:
«أرجوك لا تفعل.. لا تفعل هذا، نحن نحبك يا أحمد».
نظر إليه أحمد كأنه يودعه، وقال في شرود ويأس:
«وأنا أيضاً».
وقف الضابط سعيد إلى جوار عادل دون حراك، فلم يكونا
يملكان غير الكلام، فهو يقف في معزل عنهما أعلى صخرة شاهقة الارتفاع، وسقوطه لن
يكون في الماء إطلاقا إنما على مجموعة من الصخور الأخرى، ونتيجة سقوطه حتمية هي
الموت.
بادر سعيد صارخاً هو الآخر:
«لا تؤذ نفسك فأنت لم تذنب».
أجابه أحمد بصوت يائس محبط:
«بعد كل ما فعلت وتقول إنني لم أذنب»
ثم بكى وازداد حزنا واكتئابا وهو يتساءل:
«كيف يكون هذا؟ كيف؟»
وفجأة!
القوة تناديه:
«لا تنصت لهما فهما يكذبان.. هيا البحر ينتظرك».
نظر لأخيه في أسى ثم التفت بعنف تجاه الصوت الخفي وقال:
«لم أقتل أحداً؛ بل أنت التي تقتلين».
تصاعد انفعاله وهو يكرر الجملة الأخيرة
صرخت فيه القوة القاتلة:
«أنا التي قتلتهم! وسأقتلك أنت أيضاً».
أجابها وابتسامة الفوز تزين وجهه:
«لن أعطيك الفرصة»
وتعالى صوته وهو يردد:
«سأرتمى في أحضان البحر، قبل أن تتمكني مني».
تعالت صرخات عادل وسعيد:
«لا تفعل. أرجوك لا تفعل».
أدار أحمد ظهره لهما وولّى وجهه قبل البحر، وهو يقول في
راحة تامة:
«وداعًا أيتها القوة التي تحكمت فيّ سنين.. وداعاً».
استعد
ليقفز وتحرك سعيد ومن قبله عادل في سرعةٍ رهيبة تجاهه واقتربا منه وهما يصرخان فيه
بالعودة.
#قصة_سريعة
1. #قصة
2. #قصص_قصيرة
3. #قصة_قصيرة
4. #أدب
5. #أدب_عربي
6. #رواية
7. #كتابات
8. #إبداع
9. #أدب_حديث
10. #قصص_مؤثرة
11. #حكاية
12. #خيال
13. #قصة_اليوم
14. #كتابة_إبداعية
15. #قصص_أدبية
16. #قصص_عربية
17. #قصص_واقعية
18. #قصة_حب
19. #حكايات
20. #قصة_قصيرة_عربية