في عصر احتراق الوقت: تأملات في زمنٍ يُسرق من بين أيدينا
كأننا نعيش في أفران الزمن، فليست أيامنا تمرّ، ولكنها تحترق.
لا تمضي الساعات، بل تتبخّر كما يتبخر المطر على الإسفلت الساخن.
صرنا نشهد الوقت لا بوصفه مجرّد تقويم، بل كشيءٍ حيّ يُستهلك، يئنّ، ويتلاشى بصمت.
في الماضي، كان الناس يشعرون بالزمن من خلال المواسم، من خلال نُضج الثمار، أو تغيّر ظلّ الجدار مع شمس الظهيرة.
أمّا اليوم، فنقيسه بالمهام المؤجلة، بالإشعارات التي لا تنتهي، وبشعورٍ غامض أننا دائمًا متأخرون عن شيءٍ لا نعرف ما هو.
ما الذي يحدث؟
وكيف تحوّل الوقت من حليفٍ هادئ إلى خصمٍ يركض أمامنا دون أن يلتفت؟
- زمنٌ لا يُعاش، بل يُستهلك
نحن لا نعيش اللحظة، بل نُدمن الهروب منها.
الهاتف في يد، والخطة القادمة في الرأس، والتوتر كظلٍّ دائم.
حتى الراحة لم تعد راحة، بل “مكافأة” مشروطة، مؤقتة، محشورة بين فقرتين في جدول مزدحم.
لقد تحوّل الزمن إلى سلعة: يُباع ويُشترى ويُضغط ويُستثمر.
لكننا نسينا أن الإنسان لا “يمتلك” الوقت… بل يسكنه.
فهل يعقل أن نحرق بيتنا بأيدينا، ونحن نحاول تحسين أثاثه؟
- السرعة ليست تقدمًا دائمًا
نُقنع أنفسنا أن السرعة تعني الكفاءة، وأن العجلة دليل النجاح.
لكن النار أيضًا سريعة، وتدمير المدن أسرع من بنائها.
لقد أصبحنا نُقارن السرعة بالجودة، وكأن البذرة التي لا تنمو في يومٍ واحد يجب أن تُرمى.
وهكذا نحرق السعف قبل أن يثمر.
نقتل الفكرة قبل أن تنضج.
ونتجاهل أن كل ما هو عميق… يحتاج وقتًا ليظهر.
- الدهشة المفقودة
في طفولتنا، كان اليوم طويلًا كقصّة.
كل شيء يدهشنا، كل لحظة فيها نكهة.
أمّا الآن، فتمرّ الشهور دون أن نشعر أننا عشناها فعلًا.
الدهشة ماتت لأننا فقدنا التوقف.
فقط حين نُبطئ، نرى.
فقط حين نُصغي، نُدرك.
- هل يمكن إنقاذ الزمن؟
ربما لا يمكننا إبطاء دوران الأرض،
لكن يمكننا استعادة الحقّ في التمهّل.
حين نتأمل ورقة تسقط، أو نَسمة تعبر وجوهنا، أو صوتًا لا فائدة منه سوى حضوره…
نكون قد انتصرنا، لحظةً واحدة، على احتراق السعف.
في الختام:
الزمن ليس عدوًا، بل معلم.
وكل لحظة تُهدر في العجلة، تُحرم من الحكمة.
فلنتعلم أن نُشعل نار الوعي، بدل أن نحترق بنار العجلة.
فلعلنا نُدرك، قبل فوات الأوان، أن أجمل ما في الوقت…
هو أنه يُمكن أن يُعاش.