ما العمل عند فقدان الشغف؟ الشغف= 0%

أصبح فقدان الشغف من أكثر المشاكل شيوعًا في العصر الحالي، والسؤال عنه يطرحه الكثيرون، وهو متكرر على ألسنتنا كأنه حاجة من حاجاتنا، أو ضرورة من ضرورات حياتنا.

والبحث عن الشغف مَثَلُه كمَثَل البحث عن الإلهام؛ ذلك الغامض الذي يُنَقّب عنه الشعراء والكتاب والأدباء، بعضهم قد لا يجد إلهامًا يجبره على كتابة قصيدة أو صياغة عمل أدبي، فيقعد ملومًا محسورا، والبعض لا ينتظر إلهامًا بل يوجده إيجاداً، فينهال إنتاجه غزيرا؛ وكذلك حالنا مع الشغف، إما أن نستسلم لغيابه وإما نحضره إلى الحياة رغم أنفه.

فقدان الشغف بين الحقيقة والخداع

الشغف خدعة تروجها النفس، كغطاءٍ وسترٍ للقعود واليأس، وهي في الحقيقة تسويف ومطل، وإرجاء لما ينبغي أخذه بقوة، فما كان أمر الله ليحيى إلا أن يأخذ الكتاب بقوة، وقد آتاه الحكم صبياً وشرّفه وكلّفه بالنبوة، والأخذ والقوة والإيتاء كلها دلالات على أن المعتد به هو المبادرة وليس انتظار الشغف، وهناك خمسة من الرسل فُضّلوا بأنهم كانوا أولي عزم، وهذه إشارة إلى أن العزم هو المعول عليه لا الشغف، وهناك رسول الله وخاتم النبيين يخاطبه ربه أن يقوم فينذر، ويخبره بأنه سيتلقى قولاً ثقيلاً، وكل هذا يدل على أن أداء دوره النبوي الشريف قائم على المبادرة والعزم والتصميم، والمشقة والمعاناة في تبليغ الرسالة، والحزن لأجل من يدعوهم والضيق مما يمكرون، وكل هذا يوجب حمل النفس على أداء دورها.

فقدان الشغف والتأثير على العمل

وكذلك امتدح الله من زكّى نفسه، رغم أن فيها الفجور وفيها التقوى، ويبدو لي أن الشغف فيه بعض الاتباع للهوى، فلو انتظرنا الشغف لنقوم بأعمالنا ربما جعَلَنا هذا عرضة لهوانا، فإن كنا في حالة نفسية وجسمية تسمح بالعمل، وإلا فتمضي الأيام ونحن في بطالة.

إبليس لا ينتظر الشغف

وعلى الجانب المقابل نجد إبليس الذي عصى، وآثر العمى على الهدى، نجده لا يقف مكتوف الأيدي أمام الآدميين منتظراً شغفاً يحركه ليهديهم الى سبيل الضلال، بل قطع على نفسه عهداً متينًا بأن يضل الجميع وأن يقعد لهم في كل طريق، وأن يهيل عليهم الوعود كما يُهال التراب على الموتى، وجدّ السير في طريقه بكل قوة دون كلل، ودون انتظار.

تأثير الشغف على الاختيارات

والشغف هو حبٌ غير مدروس وانحياز غير مخطط، فها هي امرأة العزيز وصفها نساء مدينتها بأنها مشغوفة بيوسف حبًا، ومع ذلك كانت مخطئة؛ وهذا دليل على أن الشغف أحيانًا يقودنا إلى الاتجاه الخطأ، وليس معنى توافر شغفك بشيء أن تبادر إلى المضي خلفه، كما أن افتقارك للشغف لا ينبغي أن يتركك ضائعاً في الطريق بدون وجهة.

الشغف بين الوهم والحقيقة

ومن كل ذلك؛ فإنّ الأَوْلى أن نعمد إلى تحديد هدف في الحياة، وأن نتثبت من مشروعيته، ثم نمضي وراءه بغير اكتراث بمشاعرنا التي تتقلب.

ومعنى هذا؛ أن نقود نحن شغفنا، لا أن نترك له قِيادَنا، أن نحرك نحن مشاعرنا في اتجاه ما نوقن أنه خير لنا، لا أن نقعد على قارعة الطريق نبيع وهماً وننتظر أن نتقاضى عنه شغفاً، فلا الوهم يجدينا، ولا الشغف يهدينا.


الشغف.. نار أم وهم؟

قد نظن أن الشغف نارٌ، تُشعل القلب، وتدفع الأقدام للمضيّ قُدمًا، لكن الحقيقة أنه ليس سوى قبسٍ زائل، إن عوَّلت عليه وحده، أضعت طريقك عند أول ريح تهب. النار تحتاج من يوقدها، وإن لم تجد لها وقودًا خبت وانطفأت، وهكذا الشغف، إن لم تستند إليه بعزمٍ، بقي حلمًا معلقًا في فضاء الأمنيات، بلا ساقٍ تُمكِّنه من المشي، ولا جناحٍ يُهيئه للتحليق.

من ينتظر الشغف ليتحرك، كمن ينتظر موجةً تدفع سفينته دون أن يرفع شراعًا، أو يجدف بيديه. والحياة لا تنتظر المترددين، ولا تترك مجالًا لمن يظنون أن المشاعر وحدها تقود إلى المجد. وحدهم الذين يمضون رغم فقدان الشغف، ويتشبثون بالطريق وإن أظلمت ملامحه، هم من يصلون إلى الغاية، وهم من يوقنون أن الشغف لا يُهدى، بل يُصنع.

ختامًا:

فليس الشغف نهرًا جاريًا نشرب منه متى عطشنا، ولا هو ضوءٌ دائم يهدينا السبيل، بل هو طيفٌ عابر، يزور من يشاء ثم يمضي، فمن وقف ينتظره طال انتظاره، ومن مضى بدونه بَلَغَهُ حيث يريد. إنما الحياة تُؤخذ بالعزم، وتُشق دروبها بالإرادة، لا بالرجاء ولا بترقب الشعور. فمن جعل من العمل عادة، ومن الهدف بوصلة، لن تعيقه تقلبات النفس، ولن يضل طريقه حين يبتعد عنه الشغف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top