رواية – قارئ الذكريات – الفصل الخامس

 


نفّذت ما طلبه مني يسري ممدوح واقتربت من فؤاد الحداد؛ ذلك الرجل العجوز الذي صدمته سيارة وهو يعبر الطريق بعد أن غادر البنك، لم أكن أعرف حينها أن هذين الوغدان هما من صدماه بغرض العثور على الخريطة الأثرية التي معه.


والآن فهمت لماذا ظنّا أنه كان يحوز هذه الخريطة وقت خروجه من البنك، لقد توهّما أنه ما دخل البنك إلا ليفتح الخزينة التي استأجرها في البنك ليضع فيها أشياءه الثمينة، ومن بينها ولا شك تلك الخريطة التي توصل إليها وحده.


ولو سألني هذان الغبيان من قبل لأخبرتهما أنه ما جاء إلا لسحب بعض الأموال، ولم يدخل أو لم أشاهده أنا على الأقل وهو يدخل إلى الخزينة.


والآن وأنا أجلس إلى جواره في سريره بالمستشفى بعد أن تعرفت إليه وإلى ابنته الوحيدة غدير؛ التي اكتشفتُ أنها كانت تدرس معي بالجامعة وفي كلية التجارة أيضًا، ولكنني كنت أسبقها بعام، وأنها كانت تعرفني جيدًا لأنني كنت الأول على الكلية دائمًا، ولم يكونوا يعرفون أن سبب تفوقي أنني كنت أقرأ ذكريات الأساتذة واضعي الامتحانات، ودائمًا ما كنت أصيب في معرفة الأسئلة التي قاموا بوضعها.


عرَفتني غدير قبل أن أعرّفها بنفسي وعرّفتني إلى أبيها، وحاولتُ جاهدًا أن أذكره بنفسي وما جرى معه في البنك يوم الحادث، ولكنني اكتشفت أنه فاقد للذاكرة فقدانًا كليًا، حتى ابنته التي تمدُّ يدها لتسقيه الماء هذه لا يذكرها، وساعتها علمت أن مهمتي ستكون صعبة أو مستحيلة.


ولا أخفي أنني بدأت أتعلق بغدير عاطفيًا، بدأت أحبها وأنجذب إليها، وأصبحت واقعًا بين مطرقة تعلقي بها وسندان غدري بأبيها وخيانته.


هل أتمادى في حبها وأرفض ما يريده مني الوغد يسري أم أن هذا لا يمكن أن يكون؟ هل يمكن أن أحافظ على حبي لها، وحبها لي؟


حبّها الذي لمسته من اللحظة الأولى للقائها وقراءة ذكرياتها معي في الجامعة.


لقد وجدت لديها ذكريات عصية على الحصر عني وعن لقاءاتها بي، تلك اللقاءات العاطفية التي لم تكن تحدث إلا في خيالها وفقط؛ ولكن عقلها دوّنها على أنها ذكريات حقيقية وأحداث حدثت بالفعل.


وهذه كانت مفاجأة بالنسبة إلى شخص خجول ومنطوٍ مثلي، لم يبادر يومًا بأخذ فعل أو إبداء رد فعل تجاه أي أنثى.


بخلاف أنثي اليعسوب؛ ضحى البرطاسي التي تظاهرت بالموت، أو بالأحرى تظاهرت بأنها ليست راغبة في الحب والارتباط حتى رحلتُ عنها، وعلى الفور نهضت ودبت فيها الحياة والرغبة في التزاوج من غيري.


واقترنت بحسن الدهشان زميلي اللزج اللدود الذي ما فكر حتى أن يدعوني لفرحهما، وما كنت لأحضر لو دعاني، ولكن رغبتي في الحصول على تقدير منهما، ولو كان تقديرًا زائفًا أو حتى تقديرًا من الأشخاص غير المناسبين، هي التي تدعوني لقول ذلك؛ ففي كثير من الأحيان نحتاج إلى التقدير حتى ولو من الأشخاص الخطأ.


ومضت الأيام، ويا للعجب!!


وجدتُ واحدة تحبني حبًا شديدًا منذ أعوام، وهي الآن تجلس إلى جوار أبيها في المستشفى كلاهما يعاني.


والدها يعاني من فقد قدميه وذاكرته، ويعاني من مطاردة وقحة من أغبياء متسلقين وصوليين انتهازيين يعملون لصالح أجندات مشبوهة للقضاء على تاريخ البلد وتراثها الحضاري وإرثها العظيم، ويعاني أيضًا من شخص جبان يجلس إلى جواره يدعي خوفًا عليه وإشفاقًا، وحبًا وترفقًا بابنته، ورثاءً لحالهما، ولا يفارقهما إلا بانتهاء وقت الزيارة اليومية، ويظن ذلك الرجل القعيد البائس أن هذا الشخص من بقية أهله أو هو ابنه، بينما لا يعرف ما يضمره في نفسه له من شر.


وكذلك ابنته الوحيدة الغريبة في هذا العالم تعاني معاناة واضحة لها مما يجري لأبيها، وتعاني معاناة مخفية عنها بحبها لهذا الشخص الجبان الذي تكن له مشاعر وعواطف قديمة كانت قد اندفنت في أعماق نفسها، وحاك عليها الزمان خيوطًا من نسيان، ونثر عليها غبارًا من تجاهل، وردم عليها باليأس والقنوط من أن تلتقيه في يوم.


بيد أن القدر كان له رأي آخر، إذ جمعهما سويًا، وهي تراه قادمًا كأنه يطل برأسه من حلم قديم ألوانه الأبيض والأسود فقط، يدخل إلى المستشفى، يسير في خطوات ثابتة، وتمنّت لو يراها إذا مرّ إلى جوارها، تمنّت لو يعرف ما كانت تخبئه له من خبيئةٍ في قلبها، تمنّت لو تلتقط مستشعرات الذكريات عنده ما حوته ذاكرتها عنه.


إلاّ أنه لم يشعر بها ومرّ بجوارها كأنه لم يرها، ومضى كطيف لطيف ووقف أمام مكتب الاستعلامات فالتقطت أذنها اسم والدها فهرولت تجاهه، وأخبرته بفرحة مبالغ فيها لاحظتها موظفة الاستقبال ونظرت إليها باستغراب؛ بينما لم تعبأ هي بشيء فقد وجدت حلمها القديم يتشكل ويتجسد أمام عينيها فتعرفت إليه وعرفته بنفسها، وأنها ابنة فؤاد الحداد الوحيدة، وأخذته في جولة تفقدية لوالدها وأجلسته إلى جواره في صمت.


كان صمتًا من جانبها ولكن من جانبي لم يكن صمتًا؛ صحيح أنني لم أتكلم غير أنني بدأت تشغيل قارئ الذكريات لأقرأ ذكريات والدها المستهدف، إلا أنني وجدت ذاكرته فارغة تمامًا، وبدأ المستشعر الخاص بي يلتقط ذكريات تنساب من رأس غدير، من أول ما رأتني وأنا أدخل المستشفى أرفل في ثياب الحب، حتى أول لقاء وأول مرة رأتني فيها في الجامعة.


تعجبتُ جدًا لها ولهذه الذكريات، وخشيتُ أن يكون قارئ الذكريات الخاص بي قد أصابه عطل جعله يخرف أو يعطي بيانات ومعلومات غير صحيحة، وخشيت أن أتحدث بشيء مما قرأته من ذكرياتها فأواجَه بالصد والتكذيب من جانبها، أو الملاوعة والمراوغة التي اعتادت عليها بنات جنسها، وبالأخص أنثى اليعسوب.


لم أكد أن أنطق ببعض الكلمات أُذكّرها فيها بنفسي حتى وجدتها قد انطلقت كسيل جارف تحكي وتحكي، وانصبت كل ذكرياتها على طاولة حوارنا فتأكدت من سلامة قارئ الذكريات وجودة أدائه فاطمأننت لذلك، لأنني كنتُ خشيت أن يكون تعطلّه هو الذي أثر بالسلب على محاولة استجلاب الذكريات من ذاكرة أبيها.


وبعد أن أبلغتني بفقدانه الذاكرة أظهرتُ أسىً وحزنًا شديدين لذلك.


رأتْهُ هي من جانبها شيئًا جميلًا وشعورًا نبيلًا وحبًا كبيرًا، ومن جانبي رأيته أنا حقارة ودناءة وقلة أصل، إنني هنا من أجل سرقة ذكريات أبيك، وددت لو أصرخ فيها وأقول لها ذلك لأريح نفسي وأهدئ أعصابي.


ولكن مع الأسف الشديد إذا فعلت ذلك فأنا متأكد من أنني سأخسرها وأخسر نفسي، فهي لن تَبقى معي ولن تُبقي عليّ لحظة واحدة بعد سماعها هذا الخبر، وكذلك يسري مزفوت لن يبقيني على قيد الحياة لحظة إضافية إذا بُحْتُ بالسرّ لأي كان، ولذلك فأنا الآن تائه حيران.


كل يوم أتوجه لزيارة فؤاد وغدير بالمستشفى، وأغادر إلى شرفة منزلي تداعبني أضواء الإعلانات، وفي الصباح أذهب إلى البنك وأعود لأكرر الكرة.

    

ومرة بعد مرة ألتقي بيسري أو أحد رجاله يسألني عن النتيجة فأبلغه أن الرجل مازال فاقدًا للذاكرة، ولا توجد في رأسه ذكريات لأقرأها، ومرة أخرى أبلغه أنني قرأت ذكريات ابنته ولم أصل لشيء ذي أهمية، وأنه لا يوجد أحد يزوره في المستشفى على الإطلاق؛ هل أنتم متأكدون أن هذا الرجل كان عالمًا أو حتى شخصًا معروفًا أو له ذكر في الحياة؟


إنني أظن أنه لو كان «يوتيوبر»، أو «تيكتوكر»، أو «بلوجر» لكان له زوار ومتابعون ومهتمون بأخباره، رغم أنه لا يقدم إلا محتوىً تافهًا يفتح من خلاله البث ليبث بعض التفاهات والأفعال عديمة القيمة والجدوى.


كأن يبث لنفسه بثًا حيًا وهو يطبخ البطيخ بالصلصة، أو وهو يطارد الجن في الجبال والأماكن المهجورة، ولا أعرف أي جن يطارده هؤلاء إلا أن يكون الواد الجن الذي غنّى له حسن الأسمر يومًا، أو يجلس لساعات يقشر بيضة حيّة دون أن يتسبب في سكب السائل منها، أو يفتح البث وينام ويبث شخيره وفمه المفتوح للعامة كأنه يظن نفسه صرصارًا مضروبًا بشبشب ليستلقي على ظهره على هذا النحو.


أو يفعل مثلما فعل بعض الشباب ذات يوم؛ ارتدوا أقنعة مخيفة في الشارع وحملوا سيوفًا وهم يركضون كأنهم أشباح، وكان ذلك أثناء تصويرهم مشهدًا تمثيليًا ضمن مقطع فيديو لنشره على التيك توك؛ فرآهم طفل بريء فتوقفت عضلة قلبه فمات من فوره.


أو هو أو هي، وما عاد يوجد فارق بين هو وهي، تجري تحديًا مع أحدهم وإذا خسرت الجولة تقوم بوضع أشياء على رأسها كأنْ تكسر بيضًا حيًا وتغرق به جسدها، أو تضع مساحيق غسيل الملابس على جسدها وتطلق الماء عليها؛ المهم أن ترتكب أي فعل يهين إنسانيتها أو إنسانيته.


المهم أن تتحلى بأخلاق القرود، وتتصرف تصرفات القرود، وتأكل كما يأكل القرود، وتعمل مقالب فيمن تعرفهم كما يعمل القرود، مقابل تلقي الدعم من المتفرجين على خيبتك.


المهم أن تنزل من مرتبة إنسانيتك إلى مرتبةٍ دنيا، بدلًا من أن ترتقي نحو الملائكية كما أراد لك خالقك.


إذا نزلت وتنازلت عن منزلتك ووضعك الذي خلقك الله فيه وكرّمك ساعتها تنهال عليك التكبيسات والهدايا والأسود والورود، ساعتها تصبح تيكتوكر مشهور أو يوتيوبر ذا صيت أو بلوجر معروف.


ساعتها لن تجلس في المستشفى وحيدًا لا يزورك أحد مثلما هو حال العالم الجليل فؤاد الحداد، الذي لو أوتي ذاكرة الآن لتمنّى أنْ لم يكن في يومٍ عالمًا.


وأنْ لو كان أحد هؤلاء التافهين فينال مجدًا وشهرة ومالًا.


أو لو كان موظفًا بسيطًا؛ يروح إلى عمله فلا يعمل عملًا ذا أهمية، ويغدو منه فلا يتقاضى راتبًا ذا قيمة، فقط عليه أن يوقع حضورًا في خانة الحضور، ويوقع انصرافًا في خانة الانصراف.


وإذا تطوّر الأمر فعليه أن يضع بصمته الغالية على جهاز البصمة الحديث، ليثبت حضوره الجسدي إلى مكان العمل، ولا يهم ماذا يؤدي من عمل بعد أو أين يذهب أو كيف يعامل جمهور المتعاملين معه، أو هل يبقى في مكان العمل أصلًا حتى نهاية اليوم ليضع بصمته الشريفة على جهاز البصمة، أم أنه يبصم أول اليوم ويغادر إلى أشغاله الخاصة، ولا يعود إلى على البصمة الختامية، يتكرّم بها وينطلق سعيدًا مبتسمًا فرحانًا بأنه أنجز شيئًا عظيمًا اليوم وكل يوم؛ وهو أنه يترك بصمته في العمل.


وقتها كان يمكن لفؤاد الحداد أن يقضي حياته الوظيفية برتابة وملل، وبعد أن تنتهي ربما تذكره أحد زملائه فزاره في المستشفى اليوم؛ أما أن تكون عالمًا فيبدو أنه مكتوب أن تبقى أبدًا في سرير المرض بغير رفيق ولا زائر ولا سائل ولا مطمئن ولا متقصٍ لأخبارك.


وهذا غريب للغاية كيف يمكن أن يكون عالمًا ومشهورًا وحائزًا لخريطة أثرية متفردة، ووحده الذي يحوزها، وعندما يقبع على السرير في المستشفى لا يجد من يسأل عنه؟


هذا يثير في نفسي الظنون والشكوك، حول قيمة أي من الاثنين؛ الخريطة أو فؤاد نفسه.


ربما لم تكن الخريطة ذات قيمة أو لم يكن هو ذا قيمة.


انغمستُ مع غدير ووالدها يوميًا كما ينغمس البسكوت في الشاي فيذوب فيه، وجدتُ بينهما رغم الذاكرة المفقودة ذلك الحب والتجمع الأسري الذي افتقدته منذ مولدي، وجدت بينهما الألفة والمودة والاهتمام، وعلاقة الأب بابنته التي لم أشاهدها من قبل، أو لم أكن أعرف تفاصيلها وطبيعتها.


ورغم أن والدها فقد ذاكرته إلا أنه لم يفقد الأبوة والحنان، مازال وهو قعيد بلا ذاكرة يسألها بين لحظة وأخرى عن حالها، وماذا فعلت في يومها، وبمن التقت، ولماذا هي حزينة أو سعيدة، ويطمئن على كل تفاصيلها، رغم أنه يعود فينسى فيعود فيسأل، وهي لا تمل من تكرار الإجابة.


انزويت في ركن الغرفة أراقبهما بعينين متأملتين، وبنفس يملؤها الحب، وتغمرها السعادة، والحزن في الوقت نفسه.


تنازعني نفسي الجبانة بين أنني لا بد أن أخاف من يسري وأن أمضي في تنفيذ أوامره حتى النهاية، وبين أنني لا بد أن أصارح غدير بالحقيقة وأن أرى ردة فعلها وأقرر ماذا أفعل بعد ذلك أو ماذا نفعل سوياً، ربما سامحتني، وربما التمست لي المعذرة، وربما طردتني، وربما عنفّتني وأسلمتني إلى الشرطة غير مأسوف عليّ، وربما، وربما، وربما؛ احتمالات واحتمالات، واحتمالات.


كلما فكرت في الأمر يزداد تعقيدًا وأزداد حيرة، أتقدم مرة لأخبرها بالحقيقة، وأتراجع في المرة نفسها وأكفُّ لساني، كلما رأيت نظراتها البريئة لي حزنت وغضبت من نفسي وهممت بالبوح، وكلما تذكرت صورة ذلك الحيوان المفترس خشيت أن أنطق.


والآن تزايدت خشيتي وتضاعف خوفي، ففي البداية كنت أخاف على نفسي من بطشه، أما اليوم فمازلت أخاف منه طبعًا ولكن عليها قبلي.


لقد امتزجتُ بها وامتلأت بها امتلاء الكوب بالماء، تشبيه بليغ؛ لأنني الكوب وهي الماء، ويمكن ليسري أن يبتلع هذا الماء في لحظة، ويمكن له أن يكسر الكوب في اللحظة نفسها؛ وهكذا ينتهي كلانا إلى غير لقاء.


إلاّ أنني اليوم ما زلت أملك الفرصة، مازلت قادرًا على البقاء والاستمرار ولو لأيامٍ قليلة.


فمادام يسري يشكُّ ولو شكًا ضعيفًا أنني قادر على إمداده بالمعلومات التي يريدها فسوف يبقيني على قيد الحياة، أما إذا تيقن من أنني أصبحت عديم الفائدة فسوف يقضي عليّ على الفور بغير تفكير ولا تردد، وأعلم أيضًا أنه فور تمكنه من معرفة مكان الخريطة الأثرية ومحتواها سيتخلص من فؤاد وربما من غدير.


ولذلك فلابد أن أقنعه دائمًا بأنه ما زال هناك أمل، وأن الغد يحمل لنا الأخبار السارة، وأن فؤاد أوشك على استعادة ذاكرته؛ وبالتالي سيستطيع قارئ الذكريات أن يقرأ، وسيصل هو إلى أهدافه الخبيثة بسلام.


وبعد أيام تحطمت خطتي الساذجة على صخرة الطبيب الذي أبلغ أحد رجال يسري بالحقيقة، وأخبره بأن فؤاد حالته لم تتحسن ولو للحظة، ولم يتذكر ولو موقفًا واحدًا، ولم يُبْدِ استجابة لأي علاج.


وكل هذا كَذّبَ روايتي ووضعني في مأزق لا فكاك منه كانت نتيجته أن تم اختطافي إلى تلك الفيلاّ اللعينة كالكابوس، القابعة في الطريق المظلم الموحش مع الوحوش البشرية الضارية.


لا أستطيع أن ألوم الطبيب فلا أعرف سبب إدلائه بهذه التصريحات، ولكن إن كان هو من فعلها فمعه عذره، ووجودي في هذه الفيلاّ المرعبة يكفيني لأن ألتمس له ألف عذر.


ضربني يسري وأعوانه ما وسعهم الضرب، سبّوني ما وسعهم السب، توعدوني وهددوني، وألقوني حيث أخذوني، ومنحوني أجلًا وفرصة أخيرة.


فرصة لمدة أسبوع إضافي بعدها إما الخريطة وإما النهاية.


كنت أظن أن الحياة تستمر على خط واحد، وارتضيت لنفسي أن أقتنع وأرضى بالعيش بقرب غدير وأبيها إلى الأبد، ظننت أن هذا الوضع المُرضي بالنسبة لي سيستمر.


وتأبى الحياة إلا أن تعود سيرتها الأولى، لا تًبْقَى على حال ولا تُبقي على أحد، وها هي تفعل معي الأمر نفسه، تضعني في مأزق البداية والنهاية، تحصرني في خطٍ زمني محدد؛ مثلما تضعنا الحياة في خطٍ محددٍ يبدأ بالميلاد وينتهي بالموت، وتلزمنا بأن نباشر كل أعمالنا خلال هذه المدة المحددة بدون زيادة أو نقصان، وهو شيء في الحقيقة لا يصلح معنا غيره.


فلو مُدت أعمارنا إلى ما لا نهاية لأجّلنا أعمالنا إلى ما لا نهاية، وما كان هناك من سبيل لتقييمنا وتقويمنا ومجازاتنا عن أعمالنا؛ وهذه طبيعة الإنسان.


الآن أجدني مجبورًا على إخبار غدير بكل شيء، لم يعد هناك طريق آخر.


صحيح أننا أصحاب إرادة حرة، صحيح أننا مخيرون، صحيح أننا نُمنح اختيارات متعددة، ونختار منها اختيارًا واحدًا بحريتنا وإرادتنا؛ ولكننا أيضًا نُجبر على بعض الأشياء في حياتنا.


نُجبر على مولدنا وموتنا، نُجبر على صحتنا ومرضنا، نُجبر على ما يجري لنا من أحداث وما يجري حولنا، نُجبر على حُلو الحياة ومرها، نُجبر على أقدارها بخيرها وشرها.


بيد أنّ كل هذه الأشياء التي نُجبر عليها لا تؤثر على إرادتنا ولا اختياراتنا، ولو أثرت عليهما فإن هذا يكون سببًا لإلغاء الإرادة وإعدام الاختيار وبالتالي انتفاء المسئولية واستمرار الأصل فينا وهو البراءة.


لذلك لا يحاسب الله فاقد العقل بل لا يكلفه بأي تكليف، ولا يحاسب المُكْرَه، ولا المضطر، ولا الناسي، ولا النائم، ولا الطفل الذي لا يستطيع التمييز بين الخير والشر والحق والضلال، كل هؤلاء ومن على شاكلتهم لا يحاسبهم الله عن أفعالهم، والباقون يحاسبون على قدر تكليفهم، ويكلفهم قدر طاقتهم.


فالله لم يجبر أحدًا على القتل، ولم يجبر أحدًا على السرقة، ولم يجبر أحدًا على الغش، ولم يجبر أحدًا على السب؛ ولكنه خلق هذه الأفعال وكوّنها ووضعها داخل مكونات الحياة، وضعها على رفّ الحياة أمامك، يمكنك أن تمد يدك لتتناولها، وتسب أو تسرق أو تقتل أو تغش، كما يمكنك أن تشيح بوجهك عنها ولا تقع في الفخ.


تمامًا مثلما فعل مع أبيك آدم وأمك حواء، وضع أمامهما شجرة ونهاهما عن الأكل منها، وترك لهما حرية الاختيار بين أن يأكلوا منها أو لا يأكلوا، وكان اختيارهم أيًا كانت دوافعه هو الأكل منها فظهرت لهما سوءاتهما.


وهنا تأتي المرحة الثانية، هل تركهما الله عاريين وبلا إعانة؟ بل على العكس وفّر لهما أسباب الستر، فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وأوحى إلى آدم بكلمات قالها آدم فتاب عليه.


وكذلك أنت عندما تتناول السرقة من على الرف فإن هذا ليس نهاية المطاف، لن تسقط في الهاوية بغير عودة، بل إنك قادر على الرجوع في هذا الاختيار بأن تتوب لله وتمتنع عن السرقة مجددًا وتعيد المسروقات التي سرقتها؛ وهكذا فأنت في الحالتين قد اخترت مصيرك.


عندما تلعب الفيفا (FIFA) أو البيس (PES) فإنك تختار من بين عدة اختيارات، إذا أردت تسديد الكرة تجاه المرمي تضغط على زر المربع بقدر معين فتنطلق الكرة نحو المرمى، فلو زاد مقدار الضغطة لارتفعت الكرة عن المرمى وضاعت الفرصة، وفي الحالتين أنت من اختار أن يضغط على هذا الزر بهذا القدر، وعليك أن تتحمل نتيجة ذلك.


فالمبرمج وضع أمامك كل الاحتمالات في اللعبة، وترك لك حرية الاختيار بينها، ولكنه في الوقت نفسه يجبرك على أشياء معينة، كوقت المباراة المسبق، وقواعد اللعبة، وأنت ملزم باللعب للمدة المحددة، ومجبر على التعامل وفق هذه القواعد، وتختار من بدائلها وتتحمل نتيجة اختياراتك.


ولا يمكنك لوم المبرمج لأنك عندما ضغطت على زر الدائرة لم يمرر لاعبك الكرة، وذلك لأنه وضع القواعد وطريقة الاستخدام وعلّمها لك، فالدائرة تؤدي إلى تزحلق اللاعب وربما تسببت في طرده إذا ارتطم بلاعب الفريق الآخر فأهواه أرضًا، فإذا استخدمت الدائرة في غير موضعها فلا تلومن إلا نفسك، فالقرار قرارك والاختيار اختيارك في كل الحالات، فإذا أردت نتيجة معينة عليك أن تختار التصرف المناسب الذي يؤدي إليها، ولا تنتظر أن تجني من الشوك عنبًا.


وكذلك هي الحياة؛ لعبة كبيرةٌ ولكنها في منتهى الجدية، والسبب في جديتها أنها لا تحدد مصير مباراة، ولا كأس، ولا دوري، ولكنها تحدد مصير إنسان، والإنسان أغلى من كل هذه الأشياء، ومصيره أهم من مصائرها، وقد قررتُ أن ألتزم بقواعد اللعبة طالما أن الحياة لها نهاية.


فالنهاية المحتومة التي وضعها الله لحياة الإنسان في وقت محدد سلفًا تعطي الإنسان الحرية الكاملة في الاختيار؛ لأنه يعلم أنه يوم يموت فإن هذا اليوم هو يوم موته الوحيد، ولو تكرر ذلك اليوم ألف مرة لتكرر موته في هذا اليوم كل مرة، وبالتالي يكون حرًا من كل قيد، حرًا من كل إنسان يُخوّفه بأنه قادر على إنهاء حياته، وهو الأمر الذي يعبر عنه الناس بالتعبير السائد «ما يأخذ الروح إلا خالقها».


وكذلك لن يموت الإنسان حتى يستوفي رزقه كله، فالرزق المقرر له في هذه الحياة سيأتيه لا محالة، سواء أراد أم لم يرد، سواء التزم الطريق القويم أو غشّ أو سرق، سيناله رزقه سيناله.


الآن تتردد في داخلي كلمات رسول الله وخاتَم النبيين: «إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها…»


ضمن الله للإنسان رزقه، وضمن له حياته، وبالتالي ضمن له حريته واستقلاليته وإرادته؛ ولذلك قررتُ إخبار غدير بكل ما جرى.


ما الذي سأخسره؟ حياتي‼ إذا انتهت فإن هذه هي نهايتها، ولم يكن هناك سبيل لزيادتها يومًا جديدًا.


ماذا سأخسر؟ وظيفتي‼ إنها من رزقي وهو لا يضيع وسيأتيني سيأتيني، وطالما أنني لم أخَتَرْ خسارة عملي إلا بمقابل مجزٍ؛ وهذا المقابل هو أن أكسب نفسي، فلا ضير.


ماذا سأخسر؟ غدير‼ لقد خسرتُ ضُحى من قبلها واستمرت الحياة بل ووجدت غدير وتعلقت بها تعلقًا أشد من ضحى.


إذن؛ لا يوجد لديّ ما أخسره.


إلى متى سأظل قابعًا في الظل؟ إلى متى سأظل متعلقًا بالدنيا راضيًا بالدنايا؟


رغم أنني لم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام، مثلي مثل المتنبي الذي لم يرَ أسوأ من هذا العيب.


طالما أنني قادر على التمام، أو هكذا أظن، فلماذا أرضى بالدون؟


 ولذلك أخبرت غدير بكل شيء.


مثلما توقعتُ غضبتْ غدير وتهددت وتوعدت.


ولأنها طيبة القلب فما لبثت أن عادت أدراجها وهبطت على أرض الواقع، ووازنت بين ما تم فرضه عليّ وما قبلتُه مكرهًا.


كيف تحاسب مكرهًا؟ خصوصًا إذا لم يتمادى في غيّه، ولم يجارِ شياطين الإنس ولم يستمر معهم في مسلسلهم الشيطاني.


التمستْ لي الأعذار من ثنايا محبتها لي، ومن خلال صدق حدسها وعلمها اليقيني أنني لا يمكن أن أكون إنسانًا سيئًا، أو أن أكون شريكًا لهؤلاء الحقراء وإلاّ لما اعترفتُ لها بذنبي، ولما امتنعت عن السير معهم في طريقهم رغم المخاطرة الشديدة التي أتعرض لها نتيجة هذا القرار.


لقد اتخذت القرار وأنا أعلم أن مصيري إما القتل أو القتل، ورغم ذلك اخترت أن أصارحها.


عَفَتْ عنّي وانضمت إليّ تشاركني الهموم والأحزان؛ ماذا سنفعل وكيف نتصرف؟


ولما سألتها عن مكان الخريطة إن كانت تعرف عنها شيئًا ضحكت، وقالت لي: «هل غيرت خطتك وتريد أن تصل لغرضك من خلالي بدلًا من ذاكرة أبي؟»


شاركتها الضحك المرغم المثقل بالهموم والمحمّل برمال الضيق وأتربة القلق من المصير القادم بعد أيام.


كلّما مرت ساعة من المهلة الممنوحة لي أزداد قلقًا، وكلّما مرّ يوم يتضاعف همي.


مرت الأيام تلو الأيام ولم نصل لحل، لم يعد غير يومين.


يومان فقط يفصلان بيني وبين المصير المحتوم.


لم أعد قادرًا على التفكير، ولم تجد غدير حلًا فهذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها عن الخريطة، وهذه هي المرة الأولى التي تعرف فيها أن هناك شبهة جنائية في حادث أبيها، لقد ظنّت أنه مجرد حادث عابر وقائد سيارة متهور غادر صدم رجلًا عجوزًا بسيارته وبدلًا من أن يقف لمساعدته يفر هاربًا، أما الآن فقد بات هناك متهم.


وهذا المتهم أصبح معلومًا تمام العلم، هذا الذي تسبب في فقد أبيها لعينيه إلى الأبد، ولذاكرته إلى الأبد، أضحت تعرفه، وتعرفه جيدًا؛ ولكن ما حيلتها تجاهه؟


هل تبلغ الشرطة وتحرر محضرًا وتأخذ الإجراءات القانونية؟ كل هذا لن يعيد لأبيها ما فقده ولكن سيؤدي إلى فقدها لناروز.


هذا الإنسان الغريب الذي أصبح في يوم وليلة أقرب المقربين إليها.


لا داعي للمشكلات ولتعش في سلام إلى جانب أبيها بأوجاعه وحبيبها بهمومه.


ظلت تكرر على سمعي هذه الكلمات يوميًا فلا هي تكف عن الكلام ولا أنا أجد حلًا ولا أجد كلامها منطقيًا.


فهي تظن أننا إن سكتنا والتزمنا الصمت سيؤدي هذا إلى نجاتنا، تظن أن يسري سيتركنا في حالنا إن تركناه في حاله وهذا مستحيل.


أخبرتها أكثر من مرة أن هذا الشخص لا يأبه بحياة أحد، ولا يعبأ بحياة أحد، ولا يهتم لمصير أحد، ولا يشغله شاغل في الحياة إلا نفسه، ومصلحته، و… ولا شيء آخر.


العودة إلى الفصل السابق: (الرابع)

الانتقال إلى الفصل التالي: (السادس)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top