رواية – قارئ الذكريات – الفصل الثاني

«وليلٍ كموج البحـــر أرخى سدوله..عليّ بـــأنــــواع الــهــمــوم لـيـبـتلي»


تنهدت وأنا أردد في نفسي شعر امرئ القيس في معلقته، وأكاد أجزم أن هذا البيت ما كُتِب إلا وصفًا لحالتي أنا لا سواي.


أجتذبُ الكرسي المعتاد وأجلس في شرفة منزلي حيث أجد نفسي كل ليلة، ورغم أن الليل يبتليني بالهموم لأنني وحيد بلا عائلة، أو أصدقاء؛ إلا أنني أفضل ابتلاءات الليل والعزلة على احتكاكات النهار بالبشر التي لا يتولد عنها إلا شرارات حارقة لذكرياتٍ مارقة من أصحابها.


لذلك لم أرتكب الخطأ التاريخي الذي ارتكبه امرؤ القيس في الأبيات التالية وهو يطلب من الليل أن ينجلي بصبح رغم يقينه أن الصباح لن يطلع عليه بحال أفضل مما هو فيه.


لن أكرر ذلك الخطأ مرة أخرى بل سأقول: «ألا أيها الليل الطويل ألا طوّل شوية على الصحبة الحلوة ديّ».


انحشرت كلمة صحبة في حنجرتي ففاقمت فيها غصةً منعتني من التغني مع سيد مكاوي.


دعني وشأني يا عم سيد، اتركني أرتشف بعضًا من الشاي باستمتاع، الشاي الذي أعده كل ليلة ولا أشربه، ولا أتوقف عن إعداده، كما لا أتوقف عن التساؤل: من أنا؟


ولكن هل سأظل كل ليلة أجلس هنا وأتساءل من أنا؟


أنا «ناروز إبراهيم ناروز إبراهيم»؛ وحسب.


أسماني أبي على اسم جدي مثلما أسماه أبوه على اسم جده فأصبح اسمي موسيقيًا بترديد كل اسمٍ منه مرتين، أصبَحتْ له رنّة، ولكن لم تصبح له شنّة حتى الآن.


أنا إنسان؛ نعم إنسان، ربما لا ينطبق هذا الوصف على مكتئبٍ منعزلٍ مثلي، أو ربما أكونُ مادحًا لنفسي بزيادة حين أنسب نفسي للإنسانية؛ إلا أنني حتى الآن لم أرتكب جرمًا أو أسلك مسلكًا يخرجني من نطاق الإنسانية، حتى الآن على الأقل؛ ولست أنوي أن أرتكب أي جريمة أو حتى حماقة في المستقبل، ولا أريد من الدنيا إلا أن تمر من حولي بسلام وتتركني في حالي.


يقولون عني إنني لا أكذب ولكنني لا أقول الحقيقة، كلامي ليس صحيحًا ولكنه ليس خطأ، مواقفي واضحة ولكنها غير مفهومة.


يشبهونني بالساعة التي أصاب زر تعديل الوقت فيه عطل وليس بها حجارة، فلا هي تقدم ولا هي تؤخر، وكذلك أنا لا أقدم ولا أؤخر.


أليس من الأفضل أن يقولوا إنني إنسان محترم ومهذب ولطيف، لا أضايق أحدًا ولا أسب أحدًا ولا أسبب إزعاجًا للجيران.


ليس لديّ أبناء ليلعبوا فوق رؤوسهم طيلة الليل خبطًا وترزيعًا، حتى ينهال عليّ وعليهم الجيران سبًا، أو حتى تبرمًا مكتومًا.


ليست لديّ زوجة حتى الآن، ولم أستطع الحصول على واحدة منهن رغم أنهن على قفا من يشيل؛ إلا أن الظاهر أن قفاي واهن لا يتحمل أنثى، أو هو غير مؤهل إلا لتحمل صفعات الأيام والأزمات التي تمر بي كل حين.


لا أعرف ما هي هذه الأزمات، ولا أعرف ما معنى الأزمة لواحد مثلي أصلًا، إذا كان يعيش في الدنيا بغير أب، ولا أم، ولا زوجة، ولا أولاد، ولا صديق، ولا رفيق، ولا ونيس، ولا أبناءه، ولا أحفاده!


ولا نشاط غير العمل، ثم ملازمة السرير، أو التأمل في الشرفة تحت ضوء الإعلانات المتقلبة، أو إعداد الشاي.


لستُ مثقفًا بما فيه الكفاية لأحتسي قهوةً مثل المثقفين الذين لا يملون من ربط الاحتساء بالقهوة رغم أن الفعل الأنسب معها هو التجرع، فقط يهونون مرارتها بمداعبتها بوصف رقيق.


تسببتُ في مشكلة وصراع حضاري وأزمة فكرية كبيرة عندما أعلنتُ رأيي هذا أمامهم ذات مرة في أحد الصالونات الأدبية التي لم أرتَدْها إلا من أجل «ضُحى».


نعم؛ ضحى السيد إبراهيم البرطاسي؛ لا تقلق هذا اسمها فقط.


تجربة الحب أو محاولة الارتباط الوحيدة التي حاولت خوضها، ولا أستطيع أن أخفي أنها فشلت قبل أن تبدأ، فلا أنا بالمؤهل للارتباط، ولا أنا بمن يعرف الحب إليه سبيلًا، خصوصًا بعد فقد أبي وأمي في سن صغيرة.


لا أعرف في أي سن تحديدًا فقدتهم لكنني لم أرهم ولو مرة واحدة، ولا أعرف أي شيء عنهم، كل ما هنالك أنني ابن لدار رعاية الأطفال الأيتام، هناك أخبروني أن هذا الاسم هو اسمي، وقالوا لي إن أبي أسماني على اسم أبيه، وأنا لا أعرف أبي ولا أعرف أباه.


على كل حال هذا الاسم يكفيني، طالما أنهم غير موجودين معي حقيقةً فلن تجديني أسماؤهم -حقيقيةً كانت أو مزيفةً- نفعًا، ولن تمنع عني ضرًا.


المهم أنني لا أعرف الحب ولا يعرفني الحب، كل ما هنالك أنني سعيت وراء ضحى بحثًا عن إكمال خانة فارغة في مكعب حياتي، أو بالأدق بحثًا عن لمبة موفرة تنير لي الجزء المعتم في نفسي.


تعمل معي في البنك وأراها كل يوم حتى تعلقت بها، ورأيت أنها كل النساء، وأنها ستكون لي وستُكوّنني، وستكون سبب سكوني.


وبعد عدة محاولات، ومطاردات، تبيّن لي أنها ليست اللمبة المناسبة؛ لأنها تستهلك ألف واط في الدقيقة، تستنزف طاقتي، وتهدر أموالي، وتنير لغيري.


تحرقُ بنزينًا كثيرًا بدون فائدة، تثرثر وتثرثر كأنها تخشى أن ينتهي الكلام من الدنيا قبل أن تقول كل ما لديها، حتى ظنّتْ أنها من فرط ما تتكلم أصبحت شاعرة أو أديبة أو خواطرية.


وخواطرية هذه تعني أنها تبث خواطرها للناس، أي ما يخطر ببالها، وهي لا يخطر ببالها شيء إلا وتبثه للناس على الفور، كل ما في خاطرها على لسانها، لدرجة أن كل زملائنا يعلمون كل شيء عن حياتها الخاصة.


يعرفون إخوتها فردًا فردًا، ويعلمون ما يحدث معهم يوميًا بالتفصيل، ويعرفون لماذا وكيف غضب أخوها بالأمس، وكيف صالحته أختها، وكيف أغضب كلاهما أبناء جيرانهما، وكيف تصالحوا، وما هو الغسيل المنشور على الحبل في هذا الصباح، وما الذي سيتم نشره بعد الغد، ولماذا تأخر نشره، وأين ستخفي الملابس الصيفية من وجه المطر، بصوتٍ شتوي، وأين تخبئ الملابس الشتوية حين يهجم الحر، بصوت صيفي، وماذا أكلوا بالأمس، وماذا يطبخون في الغد، وكيف يستعدون للعيد، وكيف تنظف الشقة وترتبها، وما المعوقات التي تقف في طريق تنظيف الستائر، وما هي الطريقة المثلى لتنظيف الحمام، وترتيب الصالون؛ وهلم جرّا.


وقد يتعجب البعض من أن يكون هذا حال موظفة بالبنك، نظرًا لما يرونه من ازدحام البنوك عادةً وانشغال موظفيها، غير أن هذا لا ينطبق على فرع البنك الذي نعمل فيه، فلحسن الحظ أو سوئه أنّ فرعنا موجود بمنطقة نائية، ولا يأتيه إلاّ كل تائه حيران، أو من ضلّ الطريق.


فضلًا عن أنّ الأستاذة ضحى يمكنها أن تباشر أعمالها وتقنع العميل بما تحدثه به، وتحصل منه على موافقةٍ بتفعيل كارت المشتريات رغم رفضه وصلابة رأسه؛ كل هذا وهي تثرثر مع من بجوارها من زملائها أو زميلاتها على السواء.


واحدة من هذا النوع لن تكون مصدر سكينة، ولا راحة، ولا طمأنينة، وإنما ستكون وبالًا على البيت ومن فيه.


إن تزوجتُها لا أستبعد أن يقابلني زميل لها في العمل مصادفة فيلومني لأنني أغضبتها بالأمس وتركتها نامت وحدها ونمت في الصالة ويحثني على مصالحتها.


هي هكذا ولن تكون نتيجة ارتباطي بها إلا هكذا، وهذا هو ما جعلني أحجم عن الارتباط بها، وهذا لا يعني أنها كانت مرحبةً بي.


في الحقيقة هي لم تعلم أصلًا أنني أفكر في الارتباط بها، إنما كان كل هذا يدور بيني وبين نفسي، فأوقات فراغي كثيرة، وليالي سهري طويلة، والشرفة تحتويني كل ليلة.


أنظر للسماء فلا أرى إلا أضواء لافتات الإعلانات وهي تومض وتنطفئ وأنا أبثها كل ما بداخلي.


وأذكر أنني يومًا كتبت رسالة لها مطولة من نوعية الخواطر التي تُصدّعُنا بها يوميًا، لحظة واحدة سأخرجها من درج المكتب وأعود لأقرأها لك.



ها أنا ذا قد عدت وفي يدي تلك الرسالة الكئيبة الحزينة إليك بها.


«سأترككِ لأن العيش معكِ في أحلامي أسهل من العيش معكِ في واقعي، سأترككِ لأنني صنعتكِ خيالًا وأحببتكِ خيالًا، سأترككِ وأظل أحلم بكِ لأنه من السهل في أحلامي أن أقطع لسانك وأمنعه من الثرثرة، وفي الواقع لا يمكنني ذلك، ولا يمكن لأحد سواي أن يفعل.


سأتركك لأنني نسجت الحب خيطًا من هواء حسبته حبلًا متينًا فتشبثت به طويلًا وفى النهاية اكتشفت الحقيقة، وهي أنني لم أكن يومًا متشبثًا بشيء، إنما هو الوهم والظنون والأماني الفارغات.


سمعتهم يقولون ومن الحب ما قتل فكنت أضحك من قولهم، واليوم لو يعلمون بحالي كم يضحكون منّي، وأنتِ السبب.


ألا تذكرين عندما دنوتُ منك واضعًا في شنطتك دبلة الخطوبة، على أمل بأن تجديها وتعرفين أنها مني وتكون فاتحة خير.


وفور خروجك من البنكِ وأنت تسيرين في الطريق العام تكملين ثرثرتك مع فانزاتك على مواقع التواصل الاجتماعي، باغتك أحد اللصوص مستقلًا موتوسيكلًا، وخطف الشنطة من يدك اليسرى وهاتفك من اليُمنى، في واقعة شهيرة، وظهرت صورته بغباء على البث المباشر، فتم القبض عليه في اليوم نفسه.


ولما رأيتِ الدبلة في قسم الشرطة نفيتِ أن تكونَ تخصّكِ، وضاعت دبلتي.


لا أعرف أين استقرت؛ أفي يد الحرامي؟ أم حرزًا من أحراز القضية؟ ولكنها ضاعت.


ألا تذكرين أنني لم أعد إلى البنك بعدها إلا كحطام طائرة سقطت من الفضاء، فعلًا اكتشفت ساعتها أنك فضاء، ولم تكونِي يومًا ذلك البحر الأزرق المتموج الذي يحمل سفينتي الى مرفأ الحب والطمأنينة والاستقرار.


كنتِ فضاءً مع أول تغيرٍ في حالة الجو وهبوب عاصفة لزجة، أسقطتيني من حساباتك، وقذفتيني من أعلى عليين لأتحطم على صخور أرض الحقيقة القاسية.


لو كنتِ بحرًا ربما صارعت الموج، على أمل بأن أصل بك إلى الضفة الآمنة من الحب، لكنك لم تكونِي، لذلك لم أكنْ.


تحولتُ معكِ من شخص مريض بحبك، إلى شخص يحب مرضه بحبك، ثم إلى شخص يكره نفسه، ويكره حبك، ويكره الدنيا.


قررتُ الرحيل وعند الرحيل علمتيني درسًا مؤلمًا، أن الذي يتجاهلك مرة في مقدرته أن يتجاهلك العمر كله، لذلك حزمت أمتعتي ورحلت».


كلما أعدتُ قراءة هذه الرسالة أجدني أتهم ضحى بأنها سبب معاناتي، ولا أعرف إن كان هذا صحيحًا، أم أن السبب الحقيقي هو فقدان أمي وأبي قبل أن تنفتح عيني للحياة، وفقدان الحنان والرعاية، والأمومة والأبوة، وعيد الأم وعيد الأب؟


لا يوجد عيد أب، هكذا يقولون؛ ولكنني مقتنع تمام الاقتناع بأن هذه أكذوبة، ومقتنع تمامًا بأن عيد الأضحى هو عيد الأب والأم معًا في وقت واحد، ففيه فرح الأب بنجاة ابنه من الذبح، وفيه فرح الأم بنجاتها وابنها في وادٍ غير ذي زرع بعد أن ذرعت الجبال صعودًا وهبوطًا.


عمومًا هذا البحث خارج إطار اختصاصي، لأنني لم يكن لي أبًا ولا أمًا، ولست أبًا لأحد حتى اليوم، ومتأكد أنني لن أكون أمًا كذلك.


العودة إلى الفصل السابق: (الأول)

الانتقال إلى الفصل التالي: (الثالث)


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top