رواية – حبس انفرادي – الومضة الخامسة

 

[1]

لم يكن يحب الصحافة ولا الإعلام على الإطلاق؛ يفضل الابتعاد دائماً عن أي أحدٍ يمت لهما بصلة، يفضل دائماً أن يعيش في الظل، لا يحب أبدا أن يجد أخباره متاحة للجميع وتفاصيل حياته مطروحة على الملأ كل يوم، ولكنها آفة العصر؛ يمكنك أن تهرب من كل البشر ولكن لن تهرب من هذه الوسائل الإعلامية أبدا، فإن لم تكن أنت نفسك مادة لها ستتلقى منها مادة ما في كل يوم؛ كل وسائل الإعلام سواء المقروءة أو المسموعة أو المرئية أو التواصل الاجتماعي أو المواقع التفاعلية الجديدة التي ظهرت في أوائل عام 2023م وغيرت وجه الحياة وطريقة التعايش، لم تعد هناك خصوصية على الإطلاق؛ لقد كسرت مواقع التفاعل الاجتماعي الجديدة حاجز الحياة الخاصة تماماً أو بالأدق أجهزت على ما تبقى منها.


 


لم يلتفت يوماً لأية رسالة تأتيه من صحفي أو إعلامي حتى أصدقاءه منهم؛ وتلك الرسالة التي وصلته منذ يومين من صديقه الصحفي إبراهيم طارق كانت إحدى هذه الرسائل المهملة التي لم يقم بفتحها؛ إلا أن خبر وفاة إبراهيم غـيّـر تفكيره ومفاهيمه وغـيـّر تصرفه فوجد نفسه مندفعاً إلى هاتفه يقلب فيه بحثاً عن رسالة إبراهيم؛ فتح الهاتف والأفكار تهدر برأسه متسائلة عما كان يريد إبراهيم أن يخبره به قبل أن يفارق الحياة؛ والأمنيات تبكي في قلبه راجيةً ألاّ يكون لهذه الرسالة علاقة بموته.


أخيرًا توصل لتلك الرسالة. 


[دكتور هاني أرجو أن تهتم بهذه الرسالة؛ صديقك الدكتور حاتم في خطر وقد تواصل معي منذ قليل وأبلغني بأسرار خطيرة، وفي البداية أطلب منك ألا تحاول التواصل معي ولا مع حاتم نهائياً؛ لقد أبلغني حاتم بأنه توصل إلى أن المهندس خالد عبد الرازق الذي اختفى منذ شهور قد اختفى في شاليه على شكل هرم في مطروح وأن هذا له علاقة بكريم سامي رجل الأعمال وبمنظمة سرية غامضة.


سأغادر إلى هذا الشاليه الليلة فإن لم أعـد فهذا دليل أكيد على صحة كلام حاتم، أرجو أن تقرأ رسالتي باهتمام].


قرأ الدكتور هاني عبد الرحمن الرسالة والحزن يسيطر عليه، اعتصر كمداً ولام نفسه كثيراً على تجاهله لها من قبل، وتمنى لو أنه قرأها في وقتها فربما منع وفاة إبراهيم، وربما أنقذ حاتم، ولكن أين حاتم؟


اضطر أن يدلف إلى مواقع التفاعل الاجتماعي التي عزل نفسه عنها كثيراً حتى أصبح كرجلٍ يعيش في كهف منعزل؛ أحس وهو يفتح أحد هذه المواقع بعد انقطاعه سنوات كأنه طفل بلا أحمال ولا أثقال ولا هموم ولا صراعات واقتحم فجأة حلبة مصارعة فوجد الجميع يلكم الجميع والكل يسب الكل والجدال محتدم على أتفه الأشياء وكأنها أمور مصيرية؛ حدّث نفسه أنه لولا حاجته إلى هذه المواقع الآن لما دخلها وآثـر أن يحافظ على سلامته النفسية؛ دخلها مضطرا فوجد عالما مُمْرِضاً كأنه مفروض على الناس برغبتهم وإرادتهم أو كأن الناس قد دُفِعت دفعاً إلى الاندماج فيه.


بحث عن اسم صديقه حاتم فوجد المواقع تعجّ باسمه وتضج بأخباره؛ يتجادلون حول اختفائه الغامض وأسبابه؛ أحس بأن لهذه المواقع بعض الفائدة أيضاً، وجد الناس منقسمين وحدّث نفسه بأنه آخر من يعلم.


لم يجد أحدًا يتكلم عن السبب الحقيقي لاختفاء حاتم حتى الآن، ولم يجد أحدًا يهتم بمقتل إبراهيم وأصدقائه فقط خبر عابر، لم يجد أحدًا يربط بين إبراهيم وحاتم بالأساس؛ تعجب عندما قرأ خبرًا قديمًا في هذه المواقع عن ظهور خالد عبد الرازق، ساورته الشكوك حول صحة الرسالة التي وصلته من إبراهيم، ولكن هذه الشكوك تبددت فور تذكره مقتل إبراهيم بالفعل، أخذ يُلقي باللوم على مواقع التواصل التي نشرت التشكيك في كل شيء، وتذكر كيف أن هذه المواقع كانت هي السبب الذي جعله يعتزل الجميع، بما فيها هذه المواقع، لما وجد نفسه غير قادر على الإنتاج نتيجة تزاحم الأفكار في رأسه، أفكار أغلبها سلبي، واهتمامات تفرض عليه أغلبها لا يعنيه في شيء؛ قرر وقتها منذ سنوات أن يتفرغ لعمله في الجامعة وفقط، قرر أن يدرس للطلاب الفيزياء التي يتقنها وحسب، وأن يحاول إجراء أبحاثه ونظرياته في صمت.


رغم علمه بالمكان الذي اختفى فيه حاتم إلا أنه كاد يشك في أن الذين تبنوا وسماً يقول إن حاتم يستجم وينعزل عن هذا الصخب على حق؛ ففي ظل ضوضاء التواصل الاجتماعي هذه ربما فضّل ألا يصطحب معه في رحلته أية هواتف أو أجهزة يمكنه أن يدلف منها إلى هذه المواقع.


حدثته نفسه بأنه الآن أصبح هو الشخص الوحيد تقريباً الذي يعلم أين هو حاتم ولماذا قتل إبراهيم وأين اختفى خالد.


الآن هو الشخص الوحيد ربما الذي يعلم الحقيقة.


ولكن كيف يتصرف وكيف يواجه هذا الأمر؟ هل يؤثر سلامته الشخصية أم يخرج من عزلته وينغمس في هذه المعركة التي فرضت عليه؟


أدرك أنه لم يعد مخيرًا في أن يخوض المعركة من عدمه؛ لا جدوى لحياته إن اختبأ ولم يواجه؛ لا جدوى لحياته إن لم ينقذ حاتم ويعيد حق إبراهيم وأصدقائه وخالد وزوجته وأبنائه؛ إن استطاع أن يفعل.


فكر فيمن يمكنه الاستعانة به فلم يهده تفكيره إلا إلى صديقه الدكتور حامد عبد العليم أستاذ أصول الدين فهو الوحيد الذي يمكنه أن يثق فيه.


اتصل به على الفور فتبادلا عبارات الترحم على إبراهيم؛ واتفق معه على أن يلتقيا بعد ساعتين في شقته لأمر هام لم يُـبِـنْـهُ له.


«نتعامل بحكمة؟! ماذا تقصد يا دكتور حامد؟».


«أقصد أننا لابد أن نضع خطة ما».


«وما هي هذه الخطة من وجهة نظرك؟».


«في رأيي فإن أول خطوة فيها يجب أن تعتمد على قدرات الخصم؛ والخصم ليس شخصاً واحداً وليس سهل المنال على الإطلاق؛ وبالتالي لابد من الاستعانة بالأجهزة الأمنية لمجابهته».


«وماذا سنقول لهم ونحن لا نملك أي دليل؟».


«أعرف ولكن أي تحرك من جانبنا بدون غطاء أمني سيكلفنا الكثير، وأقل خسارة ممكن أن نتكبدها هي أن نفقد حياتنا فقط أنا وأنت؛ تخيل هذا! فما بالك بما يمكن أن يصيب عائلاتنا؟! هذه المنظمة أخطر من كل التنظيمات الإرهابية التي اندثرت والتي تخلصنا منها تماماً قبل شهور؛ إنها الإرهاب الخفيّ في ثوبه الجديد».


«أخشى أنّ كلامك هذا يعني أنك تريد أن نتراجع؛ وأخشى أننا لن نستطيع فعل شيء؛ هذه المواجهة أكبر منّا بالفعل والدليل أنه لا أحد من الذين اصطدموا بهذه المنظمة قد نجا؛ أين حاتم وأين خالد وأين إبراهيم؟ و يا ترى من غيرهم؟».


«دكتور هاني! دعنا نتفق على أننا لن نترك هذه المعركة مهما كان الثمن ولكننا سنخوضها بحرص؛ ودعنا نتفق على أن تحديد الخطوة الأولى ضروري؛ وأرجو ألا نقع في الخطأ نفسه الذي وقع فيه من سبقونا؛ وعلى العموم يمكننا أن نتحرك بعض التحركات المبدئية».


«مثل ماذا؟»


 [السبت 12/8/2023م]


الساعة 12.00ص تم إنشاء صفحة جديدة على أحد مواقع التفاعل الاجتماعي.


(صفحة لغز اختفاء الدكتور حاتم سليم).


 (المنشور الأول)


12.00 ص


الغامض بالنسبة للناس واضحٌ بالنسبة لي؛ حتى أن بعض المنظمات التي تعمل في الظلام مرئية بالنسبة لي؛ أراهم ولا يرونني؛ والآن أصبح من حقهم رؤيتي.      


… المجهول…


(المنشور الثاني)


12.5ص


علاقة بعض المنظمات السرية ذات الأغراض الخبيثة باختفاء الدكتور حاتم.


… المجهول…


 (المنشور الثالث)


12.10ص


رجل أعمال معروف متورط في الأمر.


… المجهول…


(المنشور الرابع)


12.15ص


كريم سامي  … المجهول…


** بلغ عدد التعليقات الألف تعليق في غضون الخمس دقائق الأخيرة، والتقط جميع المتابعين اسم كريم سامي ليطلبوا محاسبته على الفور.


** الساعة 12.30ص تم حذف الصفحة.


رغم حذف الصفحة إلا أن المنشورات والتغريدات انتشرت انتشار النار في الهشيم حتى أصبح هذا الموضوع هو الأكثر رواجاً في غضون دقائق ثم اختفى بعدها.


تأمل هاني النتيجة التي حققها فوجدها مرضية؛ لقد استطاع خلال ساعة واحدة أن يربط بين كريم وبين اختفاء حاتم؛ ويبدو أن اقتراحه نجح حتى ولو تم حذف الصفحة فلقد انتشرت الفكرة وهذا كفيل بتحقيق ما يريد.

[2]

*اتصال هاتفي*


«دكتور هاني عبد الرحمن؟».


«………».


لم يستطع أن يجيب المتصل بشيء فآثر الصمت؛ خشي أن يكون قد اقترب أوان التخلص منه.


«لا تقلق يا دكتور؛ مع حضرتك العقيد صابر».


«أهلا وسهلاً بحضرتك».


«أنت في أمان؛ وفي غضون دقائق ستنتقل إليك قوة حماية؛ سترافقك حتى تلتقي بي؛ وسيتم تعيين حراسة على عائلتك».


**اتصال هاتفي**


«تخلص من حاتم على الفور.. هل تفهمني؟».


قالها كـــريم محتداً.


«حالاً».


ظلّ حامد يراقب الشاليه من مكانٍ خفيّ حتى تراءى له شخص يخرج من الشاليه مسرعاً فانطلق ناحيته واشتبك معه وتبادلا لكمات سريعة، كاد حامد أن ينتصر ويتمكن من الإمساك بهذا الشخص الغامض الملثم لولا أن هذا الغامض قد ضغط زر جهاز صغير في يده فسقط حامد.


***


«لقد اتفقنا على أن يسافر حامد إلى مطروح ويبحث عن الشاليه وأن يبلغني فور وصوله لأقوم بنشر المعلومات؛ وإذا لاحظ أية تحركات غريبة بعد قيامي بالنشر سيقوم على الفور بالاتصال بالنجدة».


توقف الدكتور هاني قليلا وبعد برهة تفكير أضاف متسائلاً:


«ولكن كيف توصلتم إليّ؟».


 «بناءً على اتصال الدكتور حامد بالنجدة؛ ولكن لماذا لم تتصلا بالنجدة مباشرة؟».


 «للأسف لم يكن لدينا دليل».


 «ربـمـــا لـــو أســــرعتم بإبلاغنــا لتمكنّا مـــن الوصــــول إلى كــــــــريـم قـبـلهم».


 قالها العقيد صابر بنبرة معاتبة؛ ولكن الدكتور هاني لم يفهم شيئاً من ذلك أو بالأدق لم يكن منتبهاً للكلام جيداً؛ إنما كان مشغولا بالتفكير في مصير صديقه حامد فتساءل متلهفاً:


 «ولكن هل حدث مكروه للدكتور حامد؟».


 «لا تقلق بشأن الدكتور حامد هو بخير فقط بعض الكدمات ويمكنك زيارته في المستشفى».


 هـمّ هاني بالانصراف ثم توقف فجأة واستدار متسائلاً:


 «ولكن ماذا عن حاتم؟ أين هو الآن؟».


 عاجل:


 العثور على رجل الأعمال كريم سامي منتحراً في فيلته في ظروف غامضة.


 2.30ص السبت 12/8/2023.


 وردت أنباء عاجلة تفيد بالعثور على رجل الأعمال المعروف كريم ٍسامي منتحراً في فيلته؛ ولم يتم كشف ملابسات الواقعة بعد.


 يذكر أن اسم كريم سامي قد تردد في الليلة الماضية وارتبط باختفاء الدكتور حاتم سليم.


 [جريدة الخبر2023م]


 **اتصال هاتفي**


«تخلصتُ منه!».


 «أحسنت يجب أن تستمر المنظمة بأي ثمن؛ أنت المسؤول أمامي من اليوم؛ الحفاظ على سرية المنظمة له الأولوية؛ لا تكرر أخطاء كريم؛ ولكن ماذا فعلت بحاتم؟».


 «أعدت كل شيء لطبيعته؛ وأعدتهما للشاليه مرةً أخرى؛ وتركتهما غائبين عن الوعي؛ ومرّ كل شيء بسلام لولا أن شخصاً غريباً حاول الامساك بي وأنا أخرج من الشاليه فصعقته بجهازٍ مُخدر وهربت من المكان».


 «هل تعرف عليك؟».


 «لا؛ كنت ملثماً؛ ولكن لماذا تركنا حاتم وزوجته؟ وماذا عن المعلومات التي توصلا إليها؟».


 قهقه وهو يجيبه:


«المعلومات! المعلومات التي لديهما كلها عن كريم وفقط وها هو كريم قد حمل كل هذه الأخطاء وانتهى على يديك، ولا أحد يعرف عن منظمتنا شيئاً حتى الآن فقط منظمة سرية، ولكن ما هي؟ لا أحد يعرف». 


ثم تغير صوتُه ليكون جدياً وهو يضيف مشدداً:


«ولكن لابد أن تتعامل بحذر وتسعى فقط لتحقيق أهداف المنظمة ولا تبحث عن مجدٍ شخصي لنفسك حتى لا تلقى المصير نفسه، واترك مجموعة شركات النجم المضيء لأنها انتهت وأصبحت مكشوفة ولم تعد آمنة؛ فقط انتظر منا الاوامر الجديدة وستتلقى المبالغ اللازمة لتكوين مجموعة أخرى تستطيع التحرك من خلالها؛ واستعد لتظهر بشخصية جديدة تماماً وانا متأكد أنك ستتقنها مثلما أتقنت شخصية خالد عبد الرازق تلك الشخصية التي آن لها أن تختفي».


العودة إلى الومضة السابقة (الرابعة)

الانتقال إلى الومضة التالية (الأخيرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top